بين أكتوبر / تشرين الأول 2019 حين امتلأت ساحات بيروت غضباً شعبياً، وأكتوبر / تشرين الأول 2021 الذي شهد اشتباكات غير مسبوقة، يكون لبنان قد اختبر جملة حوادث كانت الأقسى على شعبه منذ عقود.
حلّت الأحد، الذكرى الثانية لانطلاق احتجاجات 17 أكتوبر / تشرين الأول 2019 في لبنان، وتداعت مجموعات من الناشطين إلى مسيرات في المناسبة، من دون أن تتمكن من الحشد شعبياً مثل لحظة انطلاقتها.
لبنان في عامين
بين تشرينَين، اختلف لبنان كثيراً. العاصمة التي استقطبت في أكتوبر / تشرين الأول 2019 آلاف اللبنانيين المعترضين الغاضبين من طبقة أمعنت في الفساد والخراب، شهدت أيضا في 4 آب / أغسطس 2020 الانفجار الأضخم في تاريخها.
سقطت البيوت في عصف الانفجار المأسوي، وتداعت حجارتها فوق رؤوس ضحايا كثيرين، ولفظت بيروت شيئاً من روحها وديناميكيتها كعاصمة عربيّة للثقافة والانفتاح والحياة.
الانفجار غير النووي هزّ لبنان، لكن ألغام عدة قطعت طريق اللبنانيين نحو إصلاح وطنهم، بالشكل الذي حاولوا أن يحدّدوه بلا نتيجة "ملموسة".
بين تشرينين، سقطت حكومتان، حكومة الرئيس سعد الحريري التي استقالت بعد أيام من انتفاضة 17 أكتوبر / تشرين الأول 2019. وحكومة الرئيس حسان دياب التي استقالت بعد أيام من انفجار مرفأ بيروت في آب / أغسطس 2020. وتشكّلت بعد أشهر من الفراغ وتصريف الأعمال، حكومة جديدة في سبتمبر / أيلول 2021 برئاسة نجيب ميقاتي، لم تقدّم حتى الآن برنامجاً يُرضي الطموحات الشعبية.
بين تشرينين، رُسمت تسويات واهتزّت تحالفات سياسية، وانبثقت مجموعات مدنية، وظهرت أطراف وأحزاب تقليدية في "صفوف" المعارضة.
بين تشرينين، عرف لبنان اشتباكات مسلحة، كانت آخرها حوادث الطيونة التي أفرزت مزيداً من الانقسام في الشارع وفي السياسة، وأرخت بظلّها الثقيل على ذكرى الانتفاضة اليوم.
حلّت الأحد، الذكرى الثانية لانطلاق احتجاجات 17 أكتوبر / تشرين الأول 2019 في لبنان، وتداعت مجموعات من الناشطين إلى مسيرات في المناسبة، من دون أن تتمكن من الحشد شعبياً مثل لحظة انطلاقتها.
لبنان في عامين
بين تشرينَين، اختلف لبنان كثيراً. العاصمة التي استقطبت في أكتوبر / تشرين الأول 2019 آلاف اللبنانيين المعترضين الغاضبين من طبقة أمعنت في الفساد والخراب، شهدت أيضا في 4 آب / أغسطس 2020 الانفجار الأضخم في تاريخها.
سقطت البيوت في عصف الانفجار المأسوي، وتداعت حجارتها فوق رؤوس ضحايا كثيرين، ولفظت بيروت شيئاً من روحها وديناميكيتها كعاصمة عربيّة للثقافة والانفتاح والحياة.
الانفجار غير النووي هزّ لبنان، لكن ألغام عدة قطعت طريق اللبنانيين نحو إصلاح وطنهم، بالشكل الذي حاولوا أن يحدّدوه بلا نتيجة "ملموسة".
بين تشرينين، سقطت حكومتان، حكومة الرئيس سعد الحريري التي استقالت بعد أيام من انتفاضة 17 أكتوبر / تشرين الأول 2019. وحكومة الرئيس حسان دياب التي استقالت بعد أيام من انفجار مرفأ بيروت في آب / أغسطس 2020. وتشكّلت بعد أشهر من الفراغ وتصريف الأعمال، حكومة جديدة في سبتمبر / أيلول 2021 برئاسة نجيب ميقاتي، لم تقدّم حتى الآن برنامجاً يُرضي الطموحات الشعبية.
بين تشرينين، رُسمت تسويات واهتزّت تحالفات سياسية، وانبثقت مجموعات مدنية، وظهرت أطراف وأحزاب تقليدية في "صفوف" المعارضة.
بين تشرينين، عرف لبنان اشتباكات مسلحة، كانت آخرها حوادث الطيونة التي أفرزت مزيداً من الانقسام في الشارع وفي السياسة، وأرخت بظلّها الثقيل على ذكرى الانتفاضة اليوم.
لا محسابة ولا رادع
بين تشرينَين، شهدت مناطق مختلفة في لبنان مآسٍ إضافية. منها حرائق القبيات وعكار ، إلى تفجير التليل في طرابلس شمالاً. إلى حوادث قتل فردية على محطات الوقود التي انتظرت أمامها طوابير السيارات.
حوادث اختلفت في الحجم وعدد ضحاياها، لكنّها التقت عند نقطة واحدة: لا نتائج في تحقيقاتها ولا محاسبة حقيقية.
بين تشرينين، تسارع الانهيار المالي والاقتصادي والمعيشي. واشتدّت أزمة فيروس كورونا وانعكست على القطاع الصحي. كما احتُجزت ودائع الناس في المصارف، وانهارت الليرة اللبنانية أمام الدولار الأميركي. خسر الآلاف أشغالهم، ارتفعت نسب البطالة، هاجر الآلاف وتعلّق آلافٌ آخرون بحلم الهجرة، بينما تفاقم اليأس في صفوف الشباب.
بين تشرينين، باتت العاصمة بيروت خالية من الأضواء مع حدة التقنين في التيار الكهربائي. لكن "الضوء في آخر النفق"، لا يزال مبهماً.
بين تشرينَين، اعتُقل المئات احتياطياً خلال الاحتجاجات، وأفرج عنهم، فيما واجه العشرات المحاكم العسكرية وخرجوا منها بأحكام براءة. بينما خسر محتجّون عيونهم أو سقطوا جرحى القمع الذي تعرّضت له المظاهرات منذ أكتوبر / تشرين الأول 2019.
لبنان بين تشرينَين، لم يعد كما كان، وكذلك لم تعد الثورة أو الانتفاضة أو الاحتجاجات إلى زخمها. عادت خجولة على أمل أن يتمكّن المعارضون الحقيقيون من اختراق سيطرة الطبقة الحاكمة عبر الانتخابات المقبلة، وقد باشرت الأحزاب باكراً في استقطاب عصب الشارع وشدّه لصالحها.
شعارات داعمة للقاضي البيطار
وانطلقت الأحد، مسيرات من نقاط مختلفة في محيط بيروت، منها قصر العدل (دوار العدلية) وساحة ساسين (الأشرفية) والكرنتينا (المدوّر)، وجابت شوارع العاصمة متجهة نحو ساحة الشهداء وسط البلد. الساحة التي احتضنت، إلى جانب ساحة رياض الصلح وشوارع بيروت، الانتفاضة الشعبية.
ولم تتمكن المجموعات الناشطة على اختلافها، من الحشد بكثافة لهذا اليوم، خصوصاً وأن زخم الانتفاضة الشعبية، التي انطلقت في مثل هذا اليوم قبل عامين، لم يحافظ على وتيرته لأسباب عدة.
ورفع المشاركون في الذكرى الثانية لانتفاضة أكتوبر/ تشرين الأول 2019، لافتات حملت شعارات ومطالب متفرقة، بينها "كلن يعني كلن" و"استعادة وطن وبناء دولة". كما هتفوا "علّوا الصوت ع الشبيحة (الإرهابي، المصارف) بـ بيروت" بعد أيام على حوادث منطقة الطيونة في بيروت. وردّدوا "معك يا طارق بيطار"، في إشارة إلى دعم المحقق العدلي في قضية انفجار مرفأ بيروت، القاضي طارق البيطار.
حوداث الطيونة "سرقت" الذكرى
وكان لبنان شهد الخميس، مواجهات مسلحة أدّت إلى سقوط 7 قتلى وأكثر من 30 جريحاً وتوقيف نحو 20 مشتبهاً به. وهو ما يرى المنظمون أنه انعكس بشكل مباشر وسلبي على الشارع، المنقسم أصلاً، لا سيّما وأن الهدوء الحذر لا يزال يُخيّم على بيروت.
حتى أن البعض، في الداخل اللبناني، اتهم الطبقة السياسية بمحاولة "افتعال" الإشكالات "عن قصد"، للتغطية على أي احتمال لإنعاش الانتفاضة وللاستمرار بتعميق الشرخ بين اللبنانيين، وهو ما يُشير، وإن لم تصحّ وقائعه السياسية، إلى مدى الإحباط من الطبقة الحاكمة.
الاشتبكات في منطقة الطيونة (بيروت)، حصلت خلال مسيرة كانت تتجه للانضمام إلى اعتصام نظّمه كلّ من حركة أمل وحزب الله، أمام قصر العدل في بيروت، ضدّ القاضي البيطار. وهدف الاعتصام إلى تنحية البيطار عن قضيّة انفجار المرفأ، إثر اتهامه بالتسييس والخضوع لأجندات أميركية، وسط حملة مستعرة عليه من عدد من الأفرقاء السياسيين في لبنان.
حوادث الطيونة اتهم فيها كلّ من حركة أمل وحزب الله، في بيان مشترك، حزب القوات اللبنانية بالوقوف وراءها وباستخدام القنص المباشر ضدّ المتظاهرين. وهو اتهام رفضه حزب القوات، واعتبره "باطلاً ومضللاً"، مطالباً الأجهزة المختصة بتحديد المسؤوليات فيه. وتعددت الروايات حول أسباب اندلاع الاشتباكات، وقد بدأت التحقيقات فيها، وفق الأجهزة الرسمية.
هذا وانتشرت، السبت، فيديوات بيّنت أن عسكريين في الجيش اللبناني بادروا إلى إطلاق النار، وأوضحت قيادة الجيش أن التحقيق فيها يجري بإشراف القضاء المختص. بينما اتهم ناشطون كلاً من حركة أمل وحزب الله بالوقوف خلف حملة ممنهجة ضدّ الجيش اللبناني وقائده العماد جوزف عون، عبر باستخدام "الجيوش الإلكترونية" والإعلامية لربطه بأجندات خارجيّة تُحضّر للبنان.
اشتباكات السلاح أم الحصص؟
هذه الانقسامات التي تشهدها الساحة اللبنانية، يعزوها المراقبون إلى أكثر من سبب، في بلد قائم على التحالفات وتقاسم الحصص وتوزيع النفوذ، بين عدد من زعماء شارك معظمهم في الحرب الأهلية.
ومن بين الأسباب التي أدّت إلى توتر الشارع، بدلاً من وحدته في ذكرى الانتفاضة، لا سيّما وأن الأزمة الاقتصادية تتفاقم بشكل حاد، هو الغضب الإقليمي والدولي والداخلي المتفاقم من سلاح حزب الله، والانقسام الشعبي المتفاوت حيال أولويّته كمطلب شعبي خلال الانتفاضة أو خلال محاولات إنعاشها. خصوصاً وأن معارضي الحزب ومن خلفه إيران، يعتبرون أن سلاحه يُشكّل "فائض قوة" وأداة ضغط في الساحة السياسية الداخلية. وآخرها عبر رفع حزب الله السقف ضدّ المحقق في جريمة انفجار مرفأ بيروت، وهو ما يراه كثيرون محاولة لتقويض سلطة القضاء واستقلاليته.
في حين تُريد غالبية اللبنانيين، ولا سيّما أهالي الضحايا والجرحى، الوصول إلى الحقيقة في انفجار هز بيروت في 4 آب / أغسطس 2020، بغض النظر عن الاستدعاءات التي طاولت وزراء سابقين وأمنيين، ليسوا مرتبطين مباشرة بحزب الله. لكن الحزب المدعوم من إيران، اعتبر أن الملف سيصل في النهاية إلى استهدافه شخصياً في القرار الظني الذي سيقدمه القاضي، في إطار ما يراه الحزب "حصاراً أميركياً - غربياً" عليه.
أما السبب الآخر، فهو المناورات التي تقوم بها الأطراف السياسية اللبنانية، على اختلافها، في محاولة منها للتأثير المباشر على الناخبين، وعلى رسم التحالفات الانتخابية، قبل أشهر معدودة من موعد الانتخابات النيابية المبكرة، المقرر إجراؤها في مارس/ آذار 2022.
أما السبب الأكثر سخونة، فهو "السباق الماروني" الباكر، على كرسي رئاسة الجمهورية، لأنها مخصصة للمذهب الماروني المسيحي، قبل نحو عام على انتخاب خلف لرئيس الجمهورية الحالي، ميشال عون.
الأزمة الاقتصادية "طحنت الشارع"
قبيل انطلاق احتجاجات 17 أكتوبر / تشرين الأول 2019، كانت الأزمات تتصاعد في لبنان. منها أزمة محدودة في الوقود وتراجع وفرة العملات الأجنبية وأزمة في الطحين والخبز، ناهيك عن عشرات الحرائق التي ضربت مناطق مختلفة في البلد وكشفت عن تقاعس الطبقة الحاكمة عن إخمادها، أو علاج الأزمات المتتالية... وصولاً إلى محاولة فرض ضرائب على اتصالات خدمة تطبيق "واتساب"، التي كانت الشرارة في الشارع وليست السبب المباشر.
استمرت الانتفاضة اللبنانية، أشهراً عدة، بين نهاية 2019 حتى مطلع ربيع 2020، تخللتها اعتصامات واحتجاجات وقطع طرقات وندوات، وشعارات للإصلاح وعدم تحميل الشعب كلفة الانهيار.
لكن القمع الممنهج الذي لعبته أحزاب مثل حزب الله وحركة أمل، في ضرب المحتجين واسهتدافهم وتهديدهم، إضافة إلى الملاحقات والاعتقالات والتوقيفات التي انتهجتها الأجهزة الأمنية وطاولت مئات المحتجين. وصولاً إلى محاولة أحزاب تقليدية التخلي عن السلطة للمشاركة في الانتفاضة، مثل القوات اللبنانية والكتائب، وهو ما انقسم حوله المعتصمون أنفسهم.
هذه الاعتداءات والانقسامات، إضافة إلى الانهيار الاقتصادي والمعيشي المتسارع، سرقت من المحتجين، وفئة الشباب تحديداً، القدرة على الاستمرار في الشارع. كما دفعت بكثيرين إلى الهجرة أو البحث عن حلول بديلة، أو الانضمام إلى تجمعات مدنية قد تتمكن من إحداث خرق "خجول" بدوره، في الانتخابات المقبلة بدلاً، من البقاء رهن "زخات" الرصاص المطاطي أو حتى الحي.
بين تشرينَين، شهدت مناطق مختلفة في لبنان مآسٍ إضافية. منها حرائق القبيات وعكار ، إلى تفجير التليل في طرابلس شمالاً. إلى حوادث قتل فردية على محطات الوقود التي انتظرت أمامها طوابير السيارات.
حوادث اختلفت في الحجم وعدد ضحاياها، لكنّها التقت عند نقطة واحدة: لا نتائج في تحقيقاتها ولا محاسبة حقيقية.
بين تشرينين، تسارع الانهيار المالي والاقتصادي والمعيشي. واشتدّت أزمة فيروس كورونا وانعكست على القطاع الصحي. كما احتُجزت ودائع الناس في المصارف، وانهارت الليرة اللبنانية أمام الدولار الأميركي. خسر الآلاف أشغالهم، ارتفعت نسب البطالة، هاجر الآلاف وتعلّق آلافٌ آخرون بحلم الهجرة، بينما تفاقم اليأس في صفوف الشباب.
بين تشرينين، باتت العاصمة بيروت خالية من الأضواء مع حدة التقنين في التيار الكهربائي. لكن "الضوء في آخر النفق"، لا يزال مبهماً.
بين تشرينَين، اعتُقل المئات احتياطياً خلال الاحتجاجات، وأفرج عنهم، فيما واجه العشرات المحاكم العسكرية وخرجوا منها بأحكام براءة. بينما خسر محتجّون عيونهم أو سقطوا جرحى القمع الذي تعرّضت له المظاهرات منذ أكتوبر / تشرين الأول 2019.
لبنان بين تشرينَين، لم يعد كما كان، وكذلك لم تعد الثورة أو الانتفاضة أو الاحتجاجات إلى زخمها. عادت خجولة على أمل أن يتمكّن المعارضون الحقيقيون من اختراق سيطرة الطبقة الحاكمة عبر الانتخابات المقبلة، وقد باشرت الأحزاب باكراً في استقطاب عصب الشارع وشدّه لصالحها.
شعارات داعمة للقاضي البيطار
وانطلقت الأحد، مسيرات من نقاط مختلفة في محيط بيروت، منها قصر العدل (دوار العدلية) وساحة ساسين (الأشرفية) والكرنتينا (المدوّر)، وجابت شوارع العاصمة متجهة نحو ساحة الشهداء وسط البلد. الساحة التي احتضنت، إلى جانب ساحة رياض الصلح وشوارع بيروت، الانتفاضة الشعبية.
ولم تتمكن المجموعات الناشطة على اختلافها، من الحشد بكثافة لهذا اليوم، خصوصاً وأن زخم الانتفاضة الشعبية، التي انطلقت في مثل هذا اليوم قبل عامين، لم يحافظ على وتيرته لأسباب عدة.
ورفع المشاركون في الذكرى الثانية لانتفاضة أكتوبر/ تشرين الأول 2019، لافتات حملت شعارات ومطالب متفرقة، بينها "كلن يعني كلن" و"استعادة وطن وبناء دولة". كما هتفوا "علّوا الصوت ع الشبيحة (الإرهابي، المصارف) بـ بيروت" بعد أيام على حوادث منطقة الطيونة في بيروت. وردّدوا "معك يا طارق بيطار"، في إشارة إلى دعم المحقق العدلي في قضية انفجار مرفأ بيروت، القاضي طارق البيطار.
حوداث الطيونة "سرقت" الذكرى
وكان لبنان شهد الخميس، مواجهات مسلحة أدّت إلى سقوط 7 قتلى وأكثر من 30 جريحاً وتوقيف نحو 20 مشتبهاً به. وهو ما يرى المنظمون أنه انعكس بشكل مباشر وسلبي على الشارع، المنقسم أصلاً، لا سيّما وأن الهدوء الحذر لا يزال يُخيّم على بيروت.
حتى أن البعض، في الداخل اللبناني، اتهم الطبقة السياسية بمحاولة "افتعال" الإشكالات "عن قصد"، للتغطية على أي احتمال لإنعاش الانتفاضة وللاستمرار بتعميق الشرخ بين اللبنانيين، وهو ما يُشير، وإن لم تصحّ وقائعه السياسية، إلى مدى الإحباط من الطبقة الحاكمة.
الاشتبكات في منطقة الطيونة (بيروت)، حصلت خلال مسيرة كانت تتجه للانضمام إلى اعتصام نظّمه كلّ من حركة أمل وحزب الله، أمام قصر العدل في بيروت، ضدّ القاضي البيطار. وهدف الاعتصام إلى تنحية البيطار عن قضيّة انفجار المرفأ، إثر اتهامه بالتسييس والخضوع لأجندات أميركية، وسط حملة مستعرة عليه من عدد من الأفرقاء السياسيين في لبنان.
حوادث الطيونة اتهم فيها كلّ من حركة أمل وحزب الله، في بيان مشترك، حزب القوات اللبنانية بالوقوف وراءها وباستخدام القنص المباشر ضدّ المتظاهرين. وهو اتهام رفضه حزب القوات، واعتبره "باطلاً ومضللاً"، مطالباً الأجهزة المختصة بتحديد المسؤوليات فيه. وتعددت الروايات حول أسباب اندلاع الاشتباكات، وقد بدأت التحقيقات فيها، وفق الأجهزة الرسمية.
هذا وانتشرت، السبت، فيديوات بيّنت أن عسكريين في الجيش اللبناني بادروا إلى إطلاق النار، وأوضحت قيادة الجيش أن التحقيق فيها يجري بإشراف القضاء المختص. بينما اتهم ناشطون كلاً من حركة أمل وحزب الله بالوقوف خلف حملة ممنهجة ضدّ الجيش اللبناني وقائده العماد جوزف عون، عبر باستخدام "الجيوش الإلكترونية" والإعلامية لربطه بأجندات خارجيّة تُحضّر للبنان.
اشتباكات السلاح أم الحصص؟
هذه الانقسامات التي تشهدها الساحة اللبنانية، يعزوها المراقبون إلى أكثر من سبب، في بلد قائم على التحالفات وتقاسم الحصص وتوزيع النفوذ، بين عدد من زعماء شارك معظمهم في الحرب الأهلية.
ومن بين الأسباب التي أدّت إلى توتر الشارع، بدلاً من وحدته في ذكرى الانتفاضة، لا سيّما وأن الأزمة الاقتصادية تتفاقم بشكل حاد، هو الغضب الإقليمي والدولي والداخلي المتفاقم من سلاح حزب الله، والانقسام الشعبي المتفاوت حيال أولويّته كمطلب شعبي خلال الانتفاضة أو خلال محاولات إنعاشها. خصوصاً وأن معارضي الحزب ومن خلفه إيران، يعتبرون أن سلاحه يُشكّل "فائض قوة" وأداة ضغط في الساحة السياسية الداخلية. وآخرها عبر رفع حزب الله السقف ضدّ المحقق في جريمة انفجار مرفأ بيروت، وهو ما يراه كثيرون محاولة لتقويض سلطة القضاء واستقلاليته.
في حين تُريد غالبية اللبنانيين، ولا سيّما أهالي الضحايا والجرحى، الوصول إلى الحقيقة في انفجار هز بيروت في 4 آب / أغسطس 2020، بغض النظر عن الاستدعاءات التي طاولت وزراء سابقين وأمنيين، ليسوا مرتبطين مباشرة بحزب الله. لكن الحزب المدعوم من إيران، اعتبر أن الملف سيصل في النهاية إلى استهدافه شخصياً في القرار الظني الذي سيقدمه القاضي، في إطار ما يراه الحزب "حصاراً أميركياً - غربياً" عليه.
أما السبب الآخر، فهو المناورات التي تقوم بها الأطراف السياسية اللبنانية، على اختلافها، في محاولة منها للتأثير المباشر على الناخبين، وعلى رسم التحالفات الانتخابية، قبل أشهر معدودة من موعد الانتخابات النيابية المبكرة، المقرر إجراؤها في مارس/ آذار 2022.
أما السبب الأكثر سخونة، فهو "السباق الماروني" الباكر، على كرسي رئاسة الجمهورية، لأنها مخصصة للمذهب الماروني المسيحي، قبل نحو عام على انتخاب خلف لرئيس الجمهورية الحالي، ميشال عون.
الأزمة الاقتصادية "طحنت الشارع"
قبيل انطلاق احتجاجات 17 أكتوبر / تشرين الأول 2019، كانت الأزمات تتصاعد في لبنان. منها أزمة محدودة في الوقود وتراجع وفرة العملات الأجنبية وأزمة في الطحين والخبز، ناهيك عن عشرات الحرائق التي ضربت مناطق مختلفة في البلد وكشفت عن تقاعس الطبقة الحاكمة عن إخمادها، أو علاج الأزمات المتتالية... وصولاً إلى محاولة فرض ضرائب على اتصالات خدمة تطبيق "واتساب"، التي كانت الشرارة في الشارع وليست السبب المباشر.
استمرت الانتفاضة اللبنانية، أشهراً عدة، بين نهاية 2019 حتى مطلع ربيع 2020، تخللتها اعتصامات واحتجاجات وقطع طرقات وندوات، وشعارات للإصلاح وعدم تحميل الشعب كلفة الانهيار.
لكن القمع الممنهج الذي لعبته أحزاب مثل حزب الله وحركة أمل، في ضرب المحتجين واسهتدافهم وتهديدهم، إضافة إلى الملاحقات والاعتقالات والتوقيفات التي انتهجتها الأجهزة الأمنية وطاولت مئات المحتجين. وصولاً إلى محاولة أحزاب تقليدية التخلي عن السلطة للمشاركة في الانتفاضة، مثل القوات اللبنانية والكتائب، وهو ما انقسم حوله المعتصمون أنفسهم.
هذه الاعتداءات والانقسامات، إضافة إلى الانهيار الاقتصادي والمعيشي المتسارع، سرقت من المحتجين، وفئة الشباب تحديداً، القدرة على الاستمرار في الشارع. كما دفعت بكثيرين إلى الهجرة أو البحث عن حلول بديلة، أو الانضمام إلى تجمعات مدنية قد تتمكن من إحداث خرق "خجول" بدوره، في الانتخابات المقبلة بدلاً، من البقاء رهن "زخات" الرصاص المطاطي أو حتى الحي.