راهن اللبنانيّون كثيرًا على ثروتهم في النفط والغاز، إلا أنّ تخبط السلطة السياسيّة في ملف الحدود البحرية أدّى إلى بروز تجاذبات حول الخطّين 23 و29 لتنتهي الأمور على تخلي الجانب اللبناني عن الخط 29 ومقايضة حقل كاريش الغني بحقل قانا غير المستكشف حتى الآن. وارتفعت الأصوات المنددة بالمقايضة ليربطها البعض باعتبارات سياسيّة داخلية وخارجية أيضًا.
وتسارعت الأحداث أخيرًا، بعدما سمحت إسرائيل بدخول سفينة مخصّصة لاستخراج النفط والغاز إلى المنطقة المتنازع عليها مع لبنان، ما دفع الجانب اللبناني إلى دعوة الوسيط الأميركي آموس هوكشتاين لاستئناف المفاوضات غير المباشرة بين البلدين.
وحطت طائرة هوكشتاين مساء الاثنين في لبنان لتبدأ على إثرها جولة من الاستشارات مع المسؤولين المعنيين بالملف من بينهم رئيس الجمهورية ورئيس حكومة تصريف الاعمال وقائد الجيش، واعدًا بنقل رسالة لبنان الجديدة المطالبة بالخط 23 وحقل قانا، إلى الجانب الإسرائيلي، على أن يعود الأسبوع المقبل حاملاً الجواب الإسرائيلي.
وبسبب حالة العداء بين لبنان وإسرائيل، انطلقت مفاوضات غير مباشرة لحل النزاع حول حدودهما البحرية، في أكتوبر/تشرين الأول 2020 بوساطة أميركية وإشراف أممي، وتوقفت في مايو/أيار من العام المنصرم بعد خلافات على مساحة المنطقة المتنازع عليها، إذ، وبناءً على تقرير بريطاني وخرائط علمية قدمها فريق مفاوض من الجيش اللبناني، وسّع لبنان المساحة التي يطالب بها بنحو 1400 كيلومتر مربع في المنطقة المتنازع عليها من الحدود المعروفة باسم "الخط 23" جنوبًا إلى "الخط 29" بما في ذلك جزء من حقل كاريش.
وبدا لافتًا تصريح قائد الجيش، إثر لقائه هوكشتاين، حيث جدد موقف المؤسسة العسكرية الداعم لأي قرار تتّخذه السلطة السياسية، ووقوفها مع أي خط تعتمده لما في ذلك من مصلحة للبنان.
البطء المتعمد
أمام الواقع المستجد في ملف الحدود البحرية، أشارت خبيرة النفط كريستينا أبي حيدر في اتصال مع "جسور" أن ما يحدث يدخل في خانة "البطء المتعمد من قبل السلطة السياسية" معتبرة أن نوايا الدولة كانت واضحة منذ البداية، "فهي لم تتمسّك بالتقرير الصادر عام 2011 حول أحقية لبنان بالخط 29 ولم تسعَ إلى تعديل المرسوم المتعلق بالقرار 6433 منذ ذلك الحين رغم الفرص المتاحة"، وسألت "ما الذي منع الدولة من التأخر في ذلك ونحن كخبراء نطالبها بعدم تفويت فرصة استثمار كاريش فيما إسرائيل أعلنت منذ سنة تلزيم البلوك العائد لها".
وأوضحت أبي حيدر أنّ لبنان هزم في مفاوضاته غير المباشرة لأنه لم يذهب إليها من منطلق قوة "المفاوضات تبنى على مبدأ "من يستطيع الحصول على الأكثر" لكننا لم نكن نملك مستندات قوية مع امتناع لبنان عن تعديل المرسوم" مجددة تأكيدها بأن الإهمال كان متعمدًا وأن "التدخل السياسي وضع الوفد التقني والجيش اللبناني في الخلف".
أبي حيدر لم تنفِ دور الاعتبارات السياسيّة في الإطاحة بحقل كاريش، "سعت الدولة في ظاهر الأمور للقول إنها تتمسّك بحق لبنان في حقل قانا والخط 23 لكنّها في الواقع تقايض على ما هو غير ملموس فلا أحد يعلم ماذا يضمن حقل قانا في حين أن حقل كاريش سبق لإسرائيل أن اكتشفت احتواءه على ثروة نفطية".
خسارة فرصتين ذهبيّتين
من جهة أخرى، أسفت لخسارة لبنان فرصتين ذهبيتين أولاً مع ارتفاع أسعار النفط والغاز عالميًا بسبب الحرب بين روسيا وأوكرانيا "تأخر لبنان في استثمار نفطه منعه من لعب دور استراتيجي نظرًا لموقعه الجغرافي فيما إسرائيل بدأت بشبك علاقات مع مصر واليونان وقبرص وتحولت إلى لعب دور محوري".
كذلك أشارت إلى خطأ جسيم اقترفته السلطة اللبنانية أفقدها فرصة ذهبية أخرى "بينما نحن في لبنان بأمس الحاجة لتلبية السوق المحلي في ظل ارتفاع الأسعار العالمية قررت الدولة التمديد ثلاث سنوات إضافية لشركات التنقيب المتعاقدة معها في البلوكين 4 و9 ما يعني أنه بإمكان هذه الشركات انتظار الاستقرار الأمني والاقتصادي حتى نهاية المهلة قبل البدء بعمليات التنقيب، ثم لاحقًا انتاج الغاز في حين كان بإمكاننا الطلب منها المباشرة بانتاجه من حقل كاريش لو لم تتوقف المفاوضات وتتعرقل".
وفي الختام، لفتت أبي حيدر إلى أن إسرائيل تسعى لتأمين الاستقرار الأمني والاقتصادي لحماية دورها الاستراتيجي فيما لبنان يخسر المزيد من الوقت بعدما خسر حتى يومنا هذا عشر سنوات بسبب البطء المتعمّد دون معرفة أسبابه.