كتب الصحافي اللبناني صهيب جوهر في "جسور":
لا تكاد حالة التوتر السياسي بين أنقرة وأثينا تنخفض تدريجياً حتى تعود إلى الاشتعال مرة ثانية، والصراعات القائمة بين الدولتين تُعدّ من أكثر الصراعات تعقيداً في تاريخ التحولات السياسية والجغرافية، وهذا الصراع هو انعكاس لخلافات سياسية ودينية وعرقية واقتصادية وثقافية بين الطرفين، معطوف عليها نزاع في ملفات عديدة كالأزمة القبرصية وجزر بحر إيجة وترسيم الحدود البحرية، إضافة إلى أن التوترات الأخيرة باتت أكثر حدة على خلفية ثروة النفط والغاز التي اكتشفت منذ سنوات في شرق المتوسط مما سبّب أزمة ممتدة من الصعب حلها دون تدخلات ووساطات دولية.
إلا أنه وعلى الرغم من وجود الطرفين، اليونان وتركيا، تحت مظلة حلف الناتو وتركهما الأبواب مشرعة بينهما، والسعي الأميركي لضمهما لشراكات استراتيجية، إلا أن التناحر وحالة الاستنفار الدائم على الجبهات كافة لم تتوقف يوماً.
التوتر الأخير بين الطرفين تطوّر عقب تصريحات الرئيس التركي رجب طيب أردوغان حول اليونان بشأن احتلال بعض الجزر في بحر إيجه، وحديثه عن أن تركيا مستعدة لفعل ما يلزم عندما يحين "الوقت المناسب". هذا الموقف يعد جديداً في قاموس الصراع الدائر بين الجانبين ولم يسبق للحزب الحاكم في تركيا استخدام مصطلحات كهذه منذ وصولهإلى السلطة، على الرغم من علامات الاستفهام التركية الدائمة حول السيادة اليونانية على تلك الجزر.
موقف أردوغان في الشكل، هو للرد على حادثة إغلاق اليونانيين قبل أسبوع أنظمة استهداف الرادار على المقاتلات التركية بينما كانت تقوم بجولة فوق بحري إيجه وشرق المتوسط. وهذا التصعيد الجديد له خلفياته، حيث كثّفت أثينا في السنوات الأخيرة من عملية تسليح الجزر القريبة من تركيا بذريعة حق الدفاع المشروع عن النفس، وحوّلتها إلى مخازن أسلحة في خرق للمعاهدات الدولية التي تحظر تسليح الجزر، كما نشرت عشرات الآلاف من الجنود في بعض الجزر كرودس وليسبوس، وشيدت مطارات عسكرية في العديد من الجزر، وهذا الأمر بالنسبة لتركيا يشكّل مناسبة لطرح إشكالية سيادة اليونان على تلك الجزر.
في المقابل، لا تخفي موسكو "سعادتها" للتوتر التركي اليوناني الأخير. فالتصعيد في ذروته ويتحول بشكل تدريجي من أزمة تقليدية اعتاد العالم عليها منذ عقود إلى مشروع أزمة بين أنقرة وواشنطن من جهة، وبين أنقرة وحلفائها كلهم في الناتو من جهة ثانية. استفحال الأزمة من شأنه أن ينعكس "سروراً" لدى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، لأن السبب الأول والفعلي للأزمة التي تفجّرت مؤخراً هو لجوء اليونان إلى تفعيل منصة صواريخ إس-300 الروسية (التي اشترتها في العام 1999 من روسيا) لمواجهة مقاتلات إف-16 التركية التي اشترتها أنقرة من واشنطن قبل عقود.
وسط هذا كلّه، فإن الولايات المتحدة ومعها الدول الغربية تترقّب أن تزوّد أنقرة أو تعقد معها صفقة لمنظومة الأسلحة الصاروخية بعيدة المدى والتي لاتزال أنقرة بحاجة لها لإستكمال قدراتها في المنظومة الدفاعية، فيما كانت واشنطن تناور سياسياً مع تركيا منذ تولي حزب العدالة والتنمية زمام السلطة وذلك عبر تفعيل نظام الباتريوت حيناً وسحبه حيناً آخر، الأمر الذي دفع الأتراك لشراء منظومة "إس-400" والتي فتحت الأزمة بين أنقرة وواشنطن بحجة أن شراء أنقرة لصواريخ إس-400 يتعارض مع البنية العسكرية لحلف الناتو ويعرض المنظومة الدفاعية الأطلسية لخطر وخروقات غير محسوبة. بالتوازي فإن الترقب هو سيد الموقف حيال ما سيكون عليه موقف الإدارة الأميركية بعد تفعيل أثينا منظومة إس-300 الروسية ضد مقاتلات إف-16 الأميركية في سماء بحر إيجه قبل أسبوعين من الآن.
على الضفة الثانية، تعيش أثينا شعوراً بأن المنظومة الدولية والإقليمية ليست حاضرة لخوض غمار معركة دفاع عنها في وجه السياسات التركية، وأنها وبعد تفعيلها للمنظومة الروسية لن تجد من يواكبها لتقوية موقفها. خاصة وأن الأتراك وخلال السنتين الأخيرتين استطاعوا تحسين علاقاتهم المتوترة مع العديد من دول المنطقة، وتبريد الأزمة مع إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن من خلال أدوار تركيا في أفغانستان والمساعدة في اغتيال زعيم "داعش" في سوريا ومواقف تركيا المواجهة لطهران في ملفات إقليمية ساخنة.
إضافة إلى أن أنقرة باتت محط اهتمام عالمي من خلال دورها الناشط في الأزمة الروسية -الأوكرانية، والدور المنوط بها مع الولايات المتحدة لتأمين الطاقة عبر تفاهماتها المستقبلية في المتوسط مع ليبيا وإسرائيل. لذا فإن أثينا تجد نفسها اليوم ضعيفة في معادلة صراع الطاقة الدائر في المتوسط، ولم تعد هناك فرصة إقليمية وعربية لإسناد مشاريع نقل غاز شرق المتوسط عبر اليونان إلى أوروبا بمعزل عن أنقرة، وهذا الأمر يتجسد اليوم بمساعي إسرائيل وتركيا للاتفاق على مشاريع نقل الغاز بعد تطوير العلاقة بينهما.
تبدو واشنطن اليوم حريصة على دخولها مدارات بحر إيجة وشرق المتوسط من خلال شراكتها مع أثينا، لكن دخول موسكو على خط اختراق ساحة النفوذ الأميركي من خلال نجاحها في بيع منظومتها الصاروخية لأنقرة وأثينا على السواء والتوغل في ساحة النفوذ الأطلسية مباشرة؛ خصوصاً وأن بوتين في غمرة حربه في أوكرانيا بات يحارب الأطلسي ونفوذه العسكري من خلال شركاء وحلفاء له، بينهم تركيا واليونان، ويبدو الرئيس الروسي أكثر حرصاً على دفع الطرفين للتقاتل وصب الزيت على النار. لاسيما وأن اليونان لن يصمد طويلا أمام الضغوطات التركية حتى ولو حاول الاستعانة والاستقواء بالأوروبيين وواشنطن، والتي قد تتخلى عنه كما تخلت عن العديد من الحلفاء عندما تشعر أن الصفقة والشراكة مع تركيا أهم وأكبر، وتحديداً فإن واشنطن حققت غايتها بمصالحة تركيا وإسرائيل وإعادة الدفء لعلاقة الدولتين.
وبالنسبة لإسرائيل فإن شغلها الشاغل اليوم، بات في إنجاح وصول غازها إلى دول أوروبا منتصف الخريف عبر البوابة التركية، في ظل الرغبة الروسية لعقد صفقة مع تركيا واليونان وإسرائيل على الرغم من استمرا المعارك في أوكرانيا؛ ومواقف دول أوروبية على رأسها فرنسا عبر لسان رئيسها إيمانويل ماكرون عن ضرورة إبقاء قنوات الحوار مفتوحة مع موسكو، وهي تعد رسالة فرنسية باتجاه واشنطن قبل غيرها حيال التعاطي مع الملفات الكبرى وتحديداً الإقليمية منها.
في المحصلة، فإن العلاقات العسكرية المتزايدة والتي عززتها أثينا مع العديد من دول الغرب وعقدها شراكات استراتيجية معها في السنوات الأخيرة، عزز لأثينا حماية عسكرية كبيرة وغير عادية، مما يجعلها أكثر جرأة في استفزاز أنقرة دون أي خوف من عواقب مرشحة للتصعيد، وعلى عكس العقود الماضية التي استطاعت من خلالها واشنطن ودول الاتحاد الأوروبي لعب دور في وقف أي تصعيد بين الجانبين. أمر كانت المستشارة الألمانية السابقة أنجيلا ميركل تسعى للعبه من خلال دورها الملموس في جمع البلدين على طاولة حوار واحدة.
لكن الظروف السياسية الداخلية المضطربة في تركيا واليونان، وأمام مرحلة انتخابات رئاسية وبرلمانية منتظرة العام المقبل في تركيا، والانشغال العالمي في الحرب الدائرة بين روسيا وأوكرانيا وانعكاساتها على أمن الطاقة وتحديات أخرى أمنية وغذائية، يرشّح نسبة التوتر بين الطرفين للارتفاع في المرحلة المقبلة.
لا تكاد حالة التوتر السياسي بين أنقرة وأثينا تنخفض تدريجياً حتى تعود إلى الاشتعال مرة ثانية، والصراعات القائمة بين الدولتين تُعدّ من أكثر الصراعات تعقيداً في تاريخ التحولات السياسية والجغرافية، وهذا الصراع هو انعكاس لخلافات سياسية ودينية وعرقية واقتصادية وثقافية بين الطرفين، معطوف عليها نزاع في ملفات عديدة كالأزمة القبرصية وجزر بحر إيجة وترسيم الحدود البحرية، إضافة إلى أن التوترات الأخيرة باتت أكثر حدة على خلفية ثروة النفط والغاز التي اكتشفت منذ سنوات في شرق المتوسط مما سبّب أزمة ممتدة من الصعب حلها دون تدخلات ووساطات دولية.
إلا أنه وعلى الرغم من وجود الطرفين، اليونان وتركيا، تحت مظلة حلف الناتو وتركهما الأبواب مشرعة بينهما، والسعي الأميركي لضمهما لشراكات استراتيجية، إلا أن التناحر وحالة الاستنفار الدائم على الجبهات كافة لم تتوقف يوماً.
التوتر الأخير بين الطرفين تطوّر عقب تصريحات الرئيس التركي رجب طيب أردوغان حول اليونان بشأن احتلال بعض الجزر في بحر إيجه، وحديثه عن أن تركيا مستعدة لفعل ما يلزم عندما يحين "الوقت المناسب". هذا الموقف يعد جديداً في قاموس الصراع الدائر بين الجانبين ولم يسبق للحزب الحاكم في تركيا استخدام مصطلحات كهذه منذ وصولهإلى السلطة، على الرغم من علامات الاستفهام التركية الدائمة حول السيادة اليونانية على تلك الجزر.
موقف أردوغان في الشكل، هو للرد على حادثة إغلاق اليونانيين قبل أسبوع أنظمة استهداف الرادار على المقاتلات التركية بينما كانت تقوم بجولة فوق بحري إيجه وشرق المتوسط. وهذا التصعيد الجديد له خلفياته، حيث كثّفت أثينا في السنوات الأخيرة من عملية تسليح الجزر القريبة من تركيا بذريعة حق الدفاع المشروع عن النفس، وحوّلتها إلى مخازن أسلحة في خرق للمعاهدات الدولية التي تحظر تسليح الجزر، كما نشرت عشرات الآلاف من الجنود في بعض الجزر كرودس وليسبوس، وشيدت مطارات عسكرية في العديد من الجزر، وهذا الأمر بالنسبة لتركيا يشكّل مناسبة لطرح إشكالية سيادة اليونان على تلك الجزر.
في المقابل، لا تخفي موسكو "سعادتها" للتوتر التركي اليوناني الأخير. فالتصعيد في ذروته ويتحول بشكل تدريجي من أزمة تقليدية اعتاد العالم عليها منذ عقود إلى مشروع أزمة بين أنقرة وواشنطن من جهة، وبين أنقرة وحلفائها كلهم في الناتو من جهة ثانية. استفحال الأزمة من شأنه أن ينعكس "سروراً" لدى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، لأن السبب الأول والفعلي للأزمة التي تفجّرت مؤخراً هو لجوء اليونان إلى تفعيل منصة صواريخ إس-300 الروسية (التي اشترتها في العام 1999 من روسيا) لمواجهة مقاتلات إف-16 التركية التي اشترتها أنقرة من واشنطن قبل عقود.
وسط هذا كلّه، فإن الولايات المتحدة ومعها الدول الغربية تترقّب أن تزوّد أنقرة أو تعقد معها صفقة لمنظومة الأسلحة الصاروخية بعيدة المدى والتي لاتزال أنقرة بحاجة لها لإستكمال قدراتها في المنظومة الدفاعية، فيما كانت واشنطن تناور سياسياً مع تركيا منذ تولي حزب العدالة والتنمية زمام السلطة وذلك عبر تفعيل نظام الباتريوت حيناً وسحبه حيناً آخر، الأمر الذي دفع الأتراك لشراء منظومة "إس-400" والتي فتحت الأزمة بين أنقرة وواشنطن بحجة أن شراء أنقرة لصواريخ إس-400 يتعارض مع البنية العسكرية لحلف الناتو ويعرض المنظومة الدفاعية الأطلسية لخطر وخروقات غير محسوبة. بالتوازي فإن الترقب هو سيد الموقف حيال ما سيكون عليه موقف الإدارة الأميركية بعد تفعيل أثينا منظومة إس-300 الروسية ضد مقاتلات إف-16 الأميركية في سماء بحر إيجه قبل أسبوعين من الآن.
على الضفة الثانية، تعيش أثينا شعوراً بأن المنظومة الدولية والإقليمية ليست حاضرة لخوض غمار معركة دفاع عنها في وجه السياسات التركية، وأنها وبعد تفعيلها للمنظومة الروسية لن تجد من يواكبها لتقوية موقفها. خاصة وأن الأتراك وخلال السنتين الأخيرتين استطاعوا تحسين علاقاتهم المتوترة مع العديد من دول المنطقة، وتبريد الأزمة مع إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن من خلال أدوار تركيا في أفغانستان والمساعدة في اغتيال زعيم "داعش" في سوريا ومواقف تركيا المواجهة لطهران في ملفات إقليمية ساخنة.
إضافة إلى أن أنقرة باتت محط اهتمام عالمي من خلال دورها الناشط في الأزمة الروسية -الأوكرانية، والدور المنوط بها مع الولايات المتحدة لتأمين الطاقة عبر تفاهماتها المستقبلية في المتوسط مع ليبيا وإسرائيل. لذا فإن أثينا تجد نفسها اليوم ضعيفة في معادلة صراع الطاقة الدائر في المتوسط، ولم تعد هناك فرصة إقليمية وعربية لإسناد مشاريع نقل غاز شرق المتوسط عبر اليونان إلى أوروبا بمعزل عن أنقرة، وهذا الأمر يتجسد اليوم بمساعي إسرائيل وتركيا للاتفاق على مشاريع نقل الغاز بعد تطوير العلاقة بينهما.
تبدو واشنطن اليوم حريصة على دخولها مدارات بحر إيجة وشرق المتوسط من خلال شراكتها مع أثينا، لكن دخول موسكو على خط اختراق ساحة النفوذ الأميركي من خلال نجاحها في بيع منظومتها الصاروخية لأنقرة وأثينا على السواء والتوغل في ساحة النفوذ الأطلسية مباشرة؛ خصوصاً وأن بوتين في غمرة حربه في أوكرانيا بات يحارب الأطلسي ونفوذه العسكري من خلال شركاء وحلفاء له، بينهم تركيا واليونان، ويبدو الرئيس الروسي أكثر حرصاً على دفع الطرفين للتقاتل وصب الزيت على النار. لاسيما وأن اليونان لن يصمد طويلا أمام الضغوطات التركية حتى ولو حاول الاستعانة والاستقواء بالأوروبيين وواشنطن، والتي قد تتخلى عنه كما تخلت عن العديد من الحلفاء عندما تشعر أن الصفقة والشراكة مع تركيا أهم وأكبر، وتحديداً فإن واشنطن حققت غايتها بمصالحة تركيا وإسرائيل وإعادة الدفء لعلاقة الدولتين.
وبالنسبة لإسرائيل فإن شغلها الشاغل اليوم، بات في إنجاح وصول غازها إلى دول أوروبا منتصف الخريف عبر البوابة التركية، في ظل الرغبة الروسية لعقد صفقة مع تركيا واليونان وإسرائيل على الرغم من استمرا المعارك في أوكرانيا؛ ومواقف دول أوروبية على رأسها فرنسا عبر لسان رئيسها إيمانويل ماكرون عن ضرورة إبقاء قنوات الحوار مفتوحة مع موسكو، وهي تعد رسالة فرنسية باتجاه واشنطن قبل غيرها حيال التعاطي مع الملفات الكبرى وتحديداً الإقليمية منها.
في المحصلة، فإن العلاقات العسكرية المتزايدة والتي عززتها أثينا مع العديد من دول الغرب وعقدها شراكات استراتيجية معها في السنوات الأخيرة، عزز لأثينا حماية عسكرية كبيرة وغير عادية، مما يجعلها أكثر جرأة في استفزاز أنقرة دون أي خوف من عواقب مرشحة للتصعيد، وعلى عكس العقود الماضية التي استطاعت من خلالها واشنطن ودول الاتحاد الأوروبي لعب دور في وقف أي تصعيد بين الجانبين. أمر كانت المستشارة الألمانية السابقة أنجيلا ميركل تسعى للعبه من خلال دورها الملموس في جمع البلدين على طاولة حوار واحدة.
لكن الظروف السياسية الداخلية المضطربة في تركيا واليونان، وأمام مرحلة انتخابات رئاسية وبرلمانية منتظرة العام المقبل في تركيا، والانشغال العالمي في الحرب الدائرة بين روسيا وأوكرانيا وانعكاساتها على أمن الطاقة وتحديات أخرى أمنية وغذائية، يرشّح نسبة التوتر بين الطرفين للارتفاع في المرحلة المقبلة.