مرت سنوات طويلة والعراق ساحة للتقاتل الإقليمي وصندوق بريد للرسائل الدولية، في وقت تتأكل فيه المؤسسات الرسمية ودور الدولة يكاد يضمحل بعدما سيطرت الأحزاب على مفاصل القرار واستولت على السيادة، في حين نخر الفساد جميع المؤسسات الرسمية والتي باتت منصة للخدمات الطائفية والحزبية الضيقة.
هذا الواقع المتردي دفع العراقيين الى انتفاضة أكتوبر التي هزت كيان الامر الواقع وأدى الى سقوط حكومة عادل عبد المهدي، واوصل الى تشكيل حكومة برئاسة الدكتور مصطفى الكاظمي حاكت مطالب الشارع المنتفض وطمأنة المجتمع العربي والدولي الذي كان يترقب بحذر مسار الأمور في العراق.
حكومة الصدمة
وسرعان ما شكلت حكومة الكاظمي صدمة من خلال الإجراءات السريعة التي اتخذتها على المستوى الاقتصادي ومنها خفض سعر صرف الدينار الذي أنقذ العراق من مصير شبيه بالانهيار الاقتصادي اللبناني، في وقت كان لقرار اجراء انتخابات نيابية مبكرة مفاعيل إيجابية على صعيد طمأنت المكونات الداخلية بإعادة انتاج السلطة بناء على مطالب المتظاهرين التشرينين.
اما على المستوى الإقليمي، فسرعان ما عاد العراق ليشكل صلة إقليمية من خلال ربط النزاع والحوار الذي احتضنه العراق بين السعودية وإيران، إضافة الى دوره البارز على مستوى المفاوضات الإيرانية الأميركية.
وما هو مؤتمر الدول الجوار الذي نظمته بغداد سوى محاكات لتموضع العراق المحايد عن الصراعات الإقليمية، ومرتكز الحوار والانفتاح الإقليمي والدولي.
في حين شكل إعادة هيبة الدولة عبر وضع خط فاصل بين الدولة ومؤسساتها والمليشيات وارتباطاتهم، خطوة مفصلية بعودة الثقة وتجسد ذلك بمنطق المحاسبة، لاسيما تجاه الجرائم والاغتيالات حيث كان التفلت من العقاب وتغييب المجرمين سيد الموقف طوال سنوات مضت.
الحياد الايجابي
منطق الدولة الذي جسدته حكومة الكاظمي خلال سنة واحدة، واكبته نتائج الانتخابات التشريعية الذي حاكت نتائجها المسار الذي بدأته حكومة ما بعد الانتفاضة الشعبية. فالهزيمة التي لحقت بالأحزاب والفصائل الولائية تجسيد لرؤية الرأي العام المؤيد للتموضع الإقليمي المستجد ورسالة دعم لإخراج العراق من سياسة المحاور الذي مزقته على مدى السنوات الماضية.
وما عكسته الانتخابات التشريعية الأخيرة رسالة شعبية مؤيدة للكاظمي وان لم يكن مرشحاً مباشراً، الا ان سقوط أحزاب المحاور المؤيدة لإيران او تلك المرتبطة بتركيا وقطر وسواها دليل بأن "العراق اولاً" هو شعار المرحلة المقبلة، ومحور الحياد الإيجابي هو عنوان المرحلة التي يطالب الشعب بترسيخها.
حكومة "المرحلة"
من هذا البعد، على الكتل النيابية الوازنة في المجلس الجديد قرائه نبض الشارع العراقي، ومواكبة تطلعاته والعمل على حكومة "المرحلة" المقبلة بما فيه مصلحة استقرار العراق، في زمن الصراع والاحتقان الإقليمي، ورياح الحرب التي تهب على الشرق الأوسط، وعدم المغامرة بتفجير الاستقرار النسبي والواعد الذي رافق حكومة الكاظمي، إضافة الى الاستقرار الاقتصادي الواعد بكثير من الازدهار سيما ان الاستثمارات الخليجية والدولية باتت في مراحل متقدمة من التنفيذ.
وتجسد التجربة اللبنانية نموذج للفوضى المتوقعة والعودة الى آتون الصراعات، إذا لم تحسن القيادات العراقية قراءة دقة المرحلة، سيما أوجه الشبه عديدة بين العراق ولبنان.