تتعرض المسطّحات المائية الضخمة جنوبي العراق، التي تسمّى "الأهوار"، إلى موجة جفاف غير مسبوقة تسبّبت في هجرة جديدة طالت مئات الأُسر، وباتت أشبه بمستنقعات صغيرة تحيط بها أراض متشققة ونباتات يابسة، إلى جانب خسائر في المواشي والمزروعات، الأمر الذي دفع بعدد من العراقيين المهتمين إلى التحرّك، من بينهم ناشطون ومدنيون أطلقوا حملةً واسعةً على وسائل التواصل الاجتماعي تحت عنوان "أنقذوا أهوار العراق".
ويزيد عدد الأهوار عن الخمسين، وتستمدّ مياهها من نهرَي دجلة والفرات بشكل رئيس، وتتوزع على محافظات (ذي قار، وميسان، والبصرة، والمثنّى)، ومناطق حدودية مع إيران جنوبي وجنوب شرقي البلاد، أمّا أبرزها فأهوار (الحمّار، والحويزة، والشيب، والدجيلة)، وتضمّ أنواعاً عديدةً من الطيور، والأسماك، والنباتات المائية، ونبات القصب والبردي، في حين تعيش حولها آلاف الأُسر العراقية على الزراعة وصيد السمك وتربية المواشي.
وكانت منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (يونسكو) قد وافقت في السابع عشر من يوليو/ تموز 2016 على إدراج الأهوار ضمن قائمة التراث العالمي، باعتباره محمية طبيعية دولية، بالإضافة إلى مدن أثرية قديمة قريبة منها مثل أور وأريدو والوركاء.
حملات لحماية الأهوار
الخبير البيئي والمدون أحمد صالح نعمة، قضى حياته متنقلا بين أهوار محافظة ميسان (380 كلم جنوب شرق بغداد) حاملا قلمه وكاميرته للدفاع عن تنوعها الحيوي.
وبحسب ما قال في تصريح لـ"جسور"، فإنّ الأهوار تعدّ نظاماً بيئياً متكاملاً فريداً من نوعه في الشرق الأوسط، وتتسع مساحة الأراضي المغطاة بالمياه وقت الفيضان في أواخر الشتاء وخلال الربيع وتتقلص أيام الصيهود، وتتراوح مساحتها بين 35- 40 ألف كيلو متر مربع. وقد أطلق العرب عليها قديما اسم "البطائح" لأن المياه تبطّحت فيها، أي سالت واتسعت في الأرض، وكان ينبت فيها القصب. أما التسمية الشعبية لها في العراق فهي "الجبايش".
ويضيف نعمة، أنه نظم العديد من حملات الدفاع عن الأحياء التي تعيش في الأهوار، منها حملته للدفاع عن ثعلب الماء العراقية الأصيلة النادرة "الأوتر" والمسماة "ماكسويل" نسبة لمكتشفها العالم الأسكتلندي غافن ماكسويل خمسينيات القرن الماضي في أهوار ميسان، بعد تعرضها للإبادة بسبب الجفاف أو عمليات الصيد الجائر وبيعها لغلاء ثمن فروتها.
ويقول لـ "جسور"، إن حملة الدفاع عن ثعلب الماء (ماكسويل) ساهمت بشكل كبير في انضمام الأهوار إلى لائحة التراث العالمي، من خلال الدفاع عن مكوناتها "واعتمدت تلك الحملة من ضمن المفردات التي ضمتها اللائحة عام 2016"، مؤكدا أنه بفعل عمليات التعرية والجور الكبير التي تعرضت إليها أهوار العراق من قبل الأنظمة الحاكمة تحوّلت إلى أرض خربة فاقدة لجميع عناصر الجمال والتكامل مع الظروف البيئية الأخرى التي تعتبر من ضروريات ديمومة الحياة فيها، وهي اليوم تمر بأسواء حالاتها ولا يمكن النظر اليها باعتبارها من الأماكن الاثرية المهمة في البلد.
تحدّ خطير
ويشرح نعمة: "يعيش سكان الأهوار، منذ آلاف السنين، في بيوت مصنوعة من القصب على جزر صغيرة طبيعية أو مصنعة، ويربّون الجاموس والبقر، ويستخدمون نوعاً من القوارب، ذات الأصل السومري، يسمونه "المشحوف" في تنقلهم وترحالهم، وتضم أكثر من 26 نوعاً من الأسماك، وتشهد في كل موسم قدوم أسراب كثيرة من الطيور المهاجرة، قاطعةً آلاف الأميال هرباً من صقيع سيبيريا ودول آسيا وسواحل شمال أوروبا في فصل الشتاء، واعتاد سكان البصرة والعمارة والناصرية على مشاهدة عشرات الأسراب من تلك الطيور وهي تقطع سماء مدنهم. أما البط فهو يفضّل المكوث والتكاثر في أماكن ضيقة ومحددة وسط الهور، ويوجد نحو عشرة أنواع منه".
ويؤكد الخبير البيئي لـ "جسور"، أنه منذ مطلع العام الحالي، يضرب الجفاف العراق، وتسبّب في تراجع مستويات المياه الواصلة عبر نهرَي دجلة والفرات، نتيجة السياسات المائية لدول الجوار، خصوصا إيران، من خلال بناء سدود وتحويل مجرى أنهار فرعية ومنع دخولها العراق.
واليوم تبدو أهوار العراق أمام تحدّ خطير من أجل البقاء، في ظلّ تفاقم أزمة الجفاف التي يصفها خبراء بأنّها الأكثر قسوةً منذ عقود طويلة، إذ تراجع منسوب المياه في المسطّحات المائية التي تغطّي مساحات كبيرة من محافظات عدّة، وتُعَدّ مصدر حياة بيئية خصبة تكوّنت حولها تجمّعات سكنية كثيرة من قرى وقصبات مختلفة تضمّ عشرات آلاف العراقيين.
أوراق ضغط
وفي وقت سابق، أفاد مقرّر لجنة المياه في البرلمان العراقي، النائب عادل المختار، بأنّ لجنته "دعت الرئاسات الثلاث إلى استخدام أوراق الضغط على دول الجوار لحملها على الانضمام إلى الاتفاقات والمعاهدات الدولية المختصّة بتوزيع المياه بين الدول"، موضحاً في تصريحات صحافية "ضرورة وضع الحلول لمعالجة الآثار السلبية لانخفاض مناسيب المياه، وأهمّها ارتفاع نسب التلوّث، لا سيّما في المناطق الوسطى والجنوبية، وزيادة مساحات التصحّر، فضلاً عن اتساع هجرة العوائل من سكنة الأهوار والقرى إلى مراكز المدن".
وكان اتحاد الجمعيات الفلاحية في ذي قار دعا في اغسطس/ آب الماضي الحكومتين المحلين والمركزية الى اعلان المحافظة منكوبة زراعياً وتبني خطة طوارئ عاجلة لمساعدة المزارعين واصحاب المواشي المتضررين من الجفاف، وفيما أكد تضرر 80 بالمئة من المحاصيل الزراعية والتمور، كشف عن هجرة ونزوح الاف الاسر الفلاحية والاهوارية الى مراكز المدن والمحافظات اخرى.
وكانت مديرية زراعة ذي قار كشفت في وقت سابق عن احصاء 2053 رأس جاموس نفقت في 3 وحدات ادارية بسبب جفاف الاهوار مرجحة ارتفاع الأرقام بصورة أكبر عند حصر 7 وحدات إدارية اخرى، وفيما أشارت الى نفوق 95 بالمئة من الثروة السمكية، أعلنت الحكومة المحلية من جانبها عن نزوح أكثر من 2000 مربي جاموس في مناطق أخرى من أهوار الناصرية.