يدور لبنان في المجهول، كلُّ المؤشرات تدفعه إلى الشلل الكليّ لكنّه يسير بالّتي هي أحسن، يحاول قاطنوه الصمود رغم كل ما يمرّون فيه. يمتعضون، ينفّذون تحركات احتجاجيّة، يرفضون رواتبهم المتدنية لكنّهم يقبلون بها من منطلق أنّ القليل أفضل من لا شيئ في ظل أزمة اقتصاديّة حادّة. يرتفع سعر صفيحة البنزين، فتقتصر تنقلّاتهم على الضروريّات. يرتفع سعر صرف الدولار، فيمتنعون عن شراء بضائع باتت تفوق قدرتهم الشرائيّة، تغيب أدوية رئيسيّة عن رفوف الصدليّات، فيحاولون تأمينها من دول أخرى تمامًا كما فعل مرضى السرطان لاستكمال علاجهم.
يبتدع اللبنانيون طرقًا للعيش خوفًا من الموت في بلد بات يفتقر لأبسط مقوّمات الحياة. لكن منهم من يلجأ إلى الإضراب عن العمل كأداة ضغط على السلطة. وهذا ما يفعله الأساتذة في التعليم الثانويّ منذ أكثر من شهرين إذ رفضوا المباشرة بالعام الدراسي قبل تسوية السلطات المعنيّة أمورَهم المعيشية.
أكثر من 7000 أستاذ يتوزّعون على الصفوف الثانويّة في مختلف المناطق، 3542 منهم شاركوا في استبيان أجرته رابطة التعليم الثانوي لمعرفة رأي الأساتذة في الإضراب القائم. 72% من المشاركين قرّروا الاستمرار في الإضراب وعدم التراجع. انطلاقًا من هذه النتيجة، ستبقى الثانويّات في لبنان مقفلة.
فجوة بين التلامذة
واقع وسّع تلقائيًّا الفجوة بين التلامذة، ففي وقتٍ عاد تلامذة المدارس الخاصّة إلى الصفوف منذ بداية العام الدراسي، هنالك آخرون في المدارس الرسميّة لا يزالون محرومين من حقّهم في التعلّم. في الحيّ الواحد والمبنى السكني الواحد، تلامذة يستيقظون باكرًا استعدادًا للذهاب إلى الصروح التعليميّة وآخرون يبقون في المنزل طوال اليوم لأنّ معظمهم لم يعد يملك ترف الالتحاق بالمدارس الخاصّة نظرًا إلى الأقساط المرتفعة. وهذا بات واضحًا من خلال تسجيل نسبة غير مسبوقة من التلامذة الذين التحقوا بالمدارس الرسميّة خلال السنتين الأخيرتين.
هو تناقضٌ لم يُحرّك وجدان المعنيّين، فهم غائبون عن هموم الأساتذة والطلّاب على حدّ سواء علمًا أنّ الصفوف الثانويّة لها خصوصيّتها لأنّ تلامذة الصف الثالث ثانوي سيخضعون بعد أشهر لامتحانات رسميّة لكي يتسنّى لهم الانتقال إلى المرحلة الجامعيّة.
وعود بلا ضمانات
الحكومة وعدت الأساتذة بتخصيص مبلغ تسعين دولارًا نقدًا يُضاف إلى رواتبهم ورفع بدل النقل إلى ستّين الف ليرة لبنانيّة، لكنّها لم تحدّد تاريخا دقيقا لتنفيذ هذه الوعود. في كل الأحوال، يرى رئيس رابطة أساتذة التعليم الثانوي الرسمي نزيه جباوي في حديث إلى جسور انّ هذه الخطوة ولو تحقّقت ليست كافية من منطلق أنّ رواتبهم لم تعد تكفيهم لتعبئة سيّاراتهم بالبنزين وأنّهم في حال باشروا العمل فسينفقون أكثر ممّا يجنون. لكن في الوقت نفسه لم ينفِ جباوي أنّ مجموعة من الأساتذة رضخت لضغوطات مورست عليها لكنّ الأكثريّة مستمرّة في الإضراب ولن تتراجع.
حين يصبح الحل مشكلة
المعضلة الأبرز في لبنان أنّ الازمة الاقتصادية الماليّة تفاقمت لدرجة بات أي مخرجٍ مشكلة بحدّ ذاته. يأمل الموظفون ومن بينهم الأساتذة رفع بدل النقل، لكنّ خبراء اقتصاديّين يحذّرون من أنّ رفع بدل النقل يعني اللجوء إلى طبع المزيد من العملة الوطنيّة وبالتالي ارتفاع الطلب على اللّيرة اللّبنانيّة ما سيؤدّي إلى استمرار ارتفاع سعر صرف الدّولار. وعندها سترتفع أسعار البضائع تلقائيًّا وسيرتفع سعر صفيحة البنزين نظرًا إلى أنّ ثمنها لم يعد مدعومًا بل يتأثّر مباشرة بارتفاع أو انخفاض سعر الدولار. الخلاصة أنّ رفع بدل النقل سيكون خبرًا مفرحًا لأيام قليلة لكن بعد ذلك سيعود الموظّفون إلى نقطة الصفر.
هذا السيناريو يضعنا امام نتيجة واضحة، وهي أنّ لبنان لا يمكنه التعافي إلّا بخطواتٍ إصلاحيّة مرتبطة بالحدّ من الهدر والفساد وتحويل الاقتصاد من ريعي إلى منتج وتأمين نقل عام مشترك ومنظّم، كلُّ خطوة خارج هذا الإطار ليست إلّا ترقيعًا لا يُحقّق في الواقع تغييرًا ملموسًا يمكن للمواطنين عمومًا التعويل عليه. وإلى حين تنفيذ خطوات إصلاحيّة جذريّة، يبدو أنّ الأمر سيستغرق وقتًا طويلًا ولا يمكن لكثر من الأساتذة الانتظار خصوصًا لمن هم متعاقدون ويتقاضون دولارًا واحدًا مقابل كل ساعة تعليم ما دفع عددًا لا يُستهان منهم إلى الاستقالة والبحث عن مصدر رزق آخر.
ليست المرة الاولى التي يعتصم فيها الأساتذة ويضربون عن العمل للحصول على حقوقهم، لكن لهذه الفترة خصوصيّتها. والأخطر أن مربّي الأجيال فقدوا الرّغبة في العطاء، وعندها من يُنقذ جيل المستقبل من الضياع؟ الأزمات على أنواعها قد تُحَل يومًا، لكن إن انهار القطاع التعليمي فماذا سيحل بالوعي المجتمعي؟