منذ أسبوعين، دخلت الحكومة اللّبنانيّة في "غيبوبة" مُفتَعلة. لا لأنّها أُسقِطَت في الشارع ولا لأنّها قدّمت استقالتها، بل لأنّ أحد مكوّناتها قرّر تعليق عملها للضغط على القضاء اللبناني.
المحقق العدلي في قضية تفجير مرفأ بيروت، القاضي طارق البيطار، يستكمل تحقيقاته، ومن بين المدّعى عليهم النائبان غازي زعيتر وعلي حسن خليل، وهما تابعان للثنائي الشيعي في البلاد، أي حركة أمل وحزب الله.
عرقلة فوق وجع الناس
النائبان زعيتر وخليل، يرفضان المثول أمام القاضي البيطار، بذريعة أنّ استجوابهما ليس من مهمّة القضاء العدلي. لكن القاضي ظلّ مصرًّا على استدعاءاته، رغم التهديدات غير المباشرة. بعدما عجز "كارهو" البيطار عن كفّ يده بالقانون، نظّموا تحرّكات في الشارع، في 14 أكتوبر / تشرين الأول الجاري، سرعان ما تحوّلت إلى اشتباكات في منطقة الطيونة (بيروت)، وإطلاق رصاص وقذائف، أدّت إلى سقوط سبعة أشخاص وجرح العشرات.
لم ينته الأمرُ عند هذا الحد، بل إنه في ظلّ الظروف المعيشيّة الصعبة في لبنان، وفي وقتٍ يحتاج اللّبنانيّون إلى خطواتٍ إصلاحيّة تنفذّها الحكومة، قرّر الثنائي الشيعي الامتناع عن حضور جلسات مجلس الوزراء، إلى حين تراجع البيطار عن استدعاءاته.
أسبوعان مرّا، والحكومة مُعطّلة وغائبة عن هموم الناس. ومحاولات تسوية الأمور كلّها باءت بالفشل. لا محاولة الاجتماع استئثنائيًّا لإيجاد حلول للوضع المعيشي نجحت، ولا لقاء رئيس الحكومة نجيب ميقاتي برئيس الجمهوريّة ميشال عون في القصر الرئاسي في بعبدا، استطاع حلّ الخلاف.
وسط هذه العراقيل، بات مطلبُ المعطّلين واضحا: الضغطُ على القضاء على حساب وجع الناس. إمّا تراجع القاضي البيطار وإمّا لا حلول معيشيّة.
هذا كلّه يحصل، فيما صفيحة البنزين تخطّت الثلاثمئة ألف ليرة لبنانيّة، بعدما كانت قبل شهرين سبعين ألف ليرة، وسعرُ صرف الدولار الأميركي، في السوق السوداء، تخطّى الـ21 ألف ليرة لبنانيّة. بينما البلادُ من شمالها إلى بقاعها وجنوبها، غارقة في العتمة شبه الشاملة.
إنقاذ "حكومة الإنقاذ"
في العاشر من سبتمبر/أيلول الماضي، ألّف الرئيس نجيب ميقاتي حكومته، بعد اكثر من عام على تعذّر التأليف في لبنان. وأراد ميقاتي تسميتها بحكومة "معًا للإنقاذ" واعدًا المواطنين بإيجاد حلولٍ لأزماتهم المعيشيّة والاقتصاديّة، قائلًا: "المرحلة حرجة لكنّنا مصمّمون على التعاون". حكومة الإنقاذ اليوم تحتاج إلى من يُنقذها، فهي مخطوفة والفدية رضوخُ القضاء للمطالب السياسيّة.
بعد انتفاضة 17 أكتوبر / تشرين الأول 2019، بات الحديث عن حكومة مؤلّفة من اختصاصيّين مستقلّين مطلبًا رئيسيًّا في البلاد، لكنّ القوى السياسيّة في كلّ مرّة تعود وتتقاسم الحقائب والحصص في ما بينها. وقبل تأليف حكومة ميقاتي، دعا أمين عام حزب الله، حسن نصرالله، إلى تأليف حكومة سياسيّة لتتحمّل الأحزابُ مسؤوليّتها مشدّدًا على أنّ حكومة المستقلّين غير قادرة على إنقاذ البلاد. وهكذا حصل، فتألّفت حكومة "معًا للإنقاذ" من اختصاصيّين غير مستقلّين.
لكنّ المفارقة أنّ الثنائيّ الشيعيّ نفسَه، شلّ الحكومة اليوم إلى أجل غير مسمّى. ومصادر حزب الله تشير لـِ"جسور" إلى أنّ تجميد انعقاد الحكومة ليس ضربًا للقضاء بل حماية له ولاستقلاليّته، باعتبار أنّ المحقّق العدلي الحالي مسيّس وينفّذ أجندات سياسيّة خارجيّة، بحسب اتّهام الثنائي الشيعي له.
عند أوّل امتحان جديّ، رسبت الحكومة اللبنانية الجديدة، وأصبحت عناوينها الإصلاحيّة المعيشيّة آخر أولويّاتها، وهي منهمكة حالياً، في إيجاد مخرجٍ يحميها من التفكّك المبكر. إذ إنّ صمود الحكومة لم يعد مرتبطًا بإرضاء الناس منعًا لإسقاطها في الشارع، بل بات مرتبطًا بمدى قدرتها على إرضاء من يعطّلها.
مساعدات منشودة
ينتظر لبنان مساعدات ماليّة من البنك الدّولي، لكنّ الأخير يشترط على المسؤولين تنفيذ مجموعة من الإصلاحات، كان أوّلها تأليف حكومة توحي بالثقة للمجتمع المحليّ والدّولي، من خلال خطط وإجراءات صارمة تهدف إلى تقليص حجم الفساد المستشري.
تألّفت الحكومة ولاقت دعمًا معنويًّا، لكنّها عادت إلى نقطة الصفر، بعدما باتت عاجزة حتّى عن الاجتماع والتفاوض مع صندوق النقد. وتالياً، فإنّ المساعدات المنشودة لم تعد واردة حاليًّا، لا من الصندوق ولا من الدول التي تنتظر تقييم المجتمع الدولي لأداء لبنان قبل المباشرة بمساعدته.
جملة أسئلة يمكن طرحها إزاء وضع حكومة ميقاتي في لبنان: ماذا لو لم تجتمع الحكومة، وماذا لو اجتمعت في ظل تشنّج بين أعضائها؟ ماذا لو استمرّ تحليق الدولار وماذا لو بقيت فاتورة المولّدات تساوي أضعاف الحدّ الأدنى للأجور؟
في الواقع، لا أجوبة على الأسئلة المطروحة، وهذا أخطر ما يمكن أن تصل إليه أي دولة. فوضى بكل ما للكلمة من معنى، وخوف من الآتي من دون أيّ أفق للحل.
ذلك، في ما عدا تصريح الرئيس ميقاتي، الثلاثاء، عن تطلعه إلى "معاودة جلسات مجلس الوزراء في أقرب وقت لإنجاز المطلوب من الحكومة".
صبر.. وتحذيرات أمنية
لم يبقَ للشعب اللبناني سوى الصبر على وضعه المتأزم يوماً بعد يوم، وسط تحذيرات من التفلّت الأمني في حال بقيت الأمور على حالها، خصوصًا مع تزايد نسبة السرقات بمعدّل غير مسبوق، وارتفاع نسبة البطالة وتآكل قيمة الرواتب.
التحذيرات انسبحت أيضًا على الأجهزة الأمنيّة اللبنانية، التي شهدت فرارًا لعدد من عناصرها، غير القادرين على استكمال عملهم، مقابل رواتب يتقاضونها بالعملة المحلية وباتت قيمتها رمزيّة، مقارنة بأسعار الدولار في السوق السوداء وأسعار السلع والخدمات.
مؤتمر جنيف
واقعٌ دفع منظمي مؤتمر جنيف المقرَّر عقده في ٨ و٩ نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل، لوضع خطط إنقاذيّة للبنان، إلى القول إنّ "عدم وضع رؤية إنقاذية لأزمة لبنان الحالية القاتلة، سيؤدي إلى التحلل التدريجي لمقومات وجود الدولة".
من يُنقذ لبنان إذًا، ومن يفرج عن حكومته، مجدّدًا ما من جواب. الأنظار متّجهة إلى الانتخابات النيابيّة في العام المقبل، لإحداث تغيير منشود يُتَرجَم في صناديق الاقتراع. الحكومة الحاليّة قبل تعطّلها، شدّدت على أنّها مصمّمة على إجراء الانتخابات وفق معايير نزيهة، لكنّها ستبقى عاجزة عن ذلك إن لم تجتمع من جديد.
والتخوّف حاليًّا، من أن تتحوّل الحكومة مع مرور الوقت إلى حكومة تصريف أعمال، فيعمل كلُّ وزير من مكتبه في وزارته من دون أيّ خطّة مشتركة للإتقاذ.
فيما النتيجة أنّ القوى السياسيّة لم تكتفِ بتعطيل التأليف لأكثر من عام، بسبب تناتش المقاعد وتمسّك كلٍّ منها بحقائب سياديّة وغير سياديّة، فها هي تستمرُّ اليوم في تعطيل العمل الحكومي.
بعد أزمة تأليف الحكومة، دخل لبنان في أزمة انعقاد الحكومة. وما بين الأزمتين مواطنون يُذلّون ويُسرَقون ويُقتَلون. لكن هذه المرّة، الأزمة مغايرة. إنّها فرصة القضاء، إمّا أن ييُثبت أنّه سلطة مستقلّة ويقضي على الضغوطات السياسيّة وإمّا يُقضَى عليه.