لا تهدأ تطورات الساحة العراقيّة التي ازدحمت أزماتها خلال الفترة الأخيرة، في ظلّ انعدام التوافق بين القوى السياسيّة في البلاد، فبعدما دعا زعيم التيار الصدري، السيد مقتدى الصدر، أنصاره للانسحاب من أمام مقر مجلس القضاء الأعلى في بغداد، في خطوة للتهدئة وامتصاص التصعيد، فُتح مجددا باب التساؤلات بشأن مصير الشلل السياسي الذي يعيشه العراق.
وفيما استأنف القضاء، الأربعاء، عمله في كافة المحاكم بعد تعليق نشاطاته الثلاثاء، احتجاجاً على الضغوط التي يتعرض لها، أصدر القضاء مجموعة من مذكرات الاعتقال بحق 3 شخصيات صدرية، وأخرى ضد ضباط تقاعسوا في حماية مبنى القضاء وسمحوا بوصول الصدريين إليه، وسط دعوات لتغليب لغة الحوار، وضمان عدم الانزلاق نحو متاهات مجهولة وخطيرة.
"رسالة قوية وصادمة"
وفي قراءته للأحداث الميدانية الأخيرة، أكدّ الباحث في الشأن السياسي العراقي، داود الحلفي، أنّ "التصعيد الأخير الذي قام به أنصار التيار الصدري، هو تصعيد لإيصال رسالة إلى الأطراف الأخرى مفادها أن الجمهور الشرس قادر على الوصول إلى أي نقطة يريدها وبالتالي قلب الطاولة على من يشكّك في قدرته على تغيير النظام أو الوصول إلى أهدافه بطريقة الإصلاح التي ينادي بها، موضحا أن جميع الأطراف تلقّفت الرسالة القوية والصادمة في مضمونها".
وفي اتصال مع "جسور"، رأى الحلفي، أنّ "الشعب العراقي بكل مكوناته يريد الإصلاح ومحاسبة المفسدين ويبحث عمن يحمل فعليا الهوية العراقية، لكن ليس بآلية خارجة عن إطار الدستور والقوانين الراعية للعراق، على الرغم من أن القوانين مغيّبة ومسيطر عليها، والقضاء قد يكون في العديد من الحالات رهن الإشارات السياسية من هنا وهناك، لكنّ الإصلاح عندما يأتي بطريقة صحيحة وبآلية قانونية ومنطقية فهو سيلقى حتما الكثير من التأييد والترحيب به"، وفق الحلفي.
وفي السياق، رأى الباحث في الشأن السياسي، أنّ "انسحاب أنصار التيار الصدري من أمام مقر مجلس القضاء الأعلى في بغداد كان نتيجة الضغوط الإقليمية والمحلية والدولية، فمؤسسات الدولة لا يمكن المساس بها"، مرجحا في الوقت عينه، أن "الصدر حقّق أهدافه بدخول مقر القضاء وانسحابه منه بعد ذلك، لكن بطبيعة الحال هي رسالة أراد منها القول إنه كلما طال الوقت كلما صمد جمهوره أكثر فأكثر، وكلما استمر التعطيل لكثير من مفاصل الدولة، فهو لم يستخدم كل قوة التيار وجمهوره وإنما نسبة بسيطة وقد يصل إلى شلّ الدولة بشكل تام".
حوار مشروط!
وعن إمكانية انخراط التيار الصدري في الحوار الوطني لوضع آليات للحل الشامل للأزمة السياسية، أكد الحلفي على "قبول الحوار من قبل التيار لكن بضمانات تتعلق بتحقيق بعض الأهداف التي ينادي بها الصدر، ومنها حلّ مجلس النواب والدعوة لانتخابات نيابية جديدة وهو ما يرفضه غريمه الإطار التنسيقي ما لم تتشكل حكومة جديدة ويناقش الأمر داخل مجلس النواب الحالي الذي يتمتع هو بالأغلبية فيه بعد استقالة النواب الصدريين". وتمنّى الحلفي من جميع الأطراف، "ألا تغذّي أي مشاريع خارجية سواء في الإطار أو حتى في التيار وإنما العمل لصالح المشروع المحلي الذي يشكل أحد أهم طموحات الشعب العراقي".
"ثقافة توافق"
بدوره، أوضح الكاتب والمحلل السياسي، علي البيدر في تصريح لـ "جسور"، أنّ "الصدر أخفق هذه المرة في توجّهه بالذهاب إلى القضاء، وردة فعل القضاء كما الأوساط السياسية كانت مستهجنة وحادة، لذلك قد يحاول تخفيف حدة هذا التصعيد وربما يلجأ إلى الحوار".
وبيّن البيدر، أنّ "الأزمة في البلاد تتجه برمّتها إلى خلق ثقافة توافق سواء للصدر أو بدونه ولا مجال سوى لتشكيل حكومة لن تضم الصدر إنما تكون مهمتها إجراء انتخابات، وكل ذلك ممكن أن يساهم بتحفيف حدة الأزمة". ويقول البيدر: "الصدر فتج جبهة مع القضاء، وهذه ربما تستنزف طاقاته وإمكانياته وربما حتى قد تساهم بإضعاف التيار الصدري عبر إصدار مذكّرات تحر بحق قيادات داخل التيار وهي كانت تطرح نفسها بأنها فوق الشبهات والعناوين التي يمكن أن تمسّ هيبتها".
الإطار التنسيقي يدين
من جانبه، أدان الإطار التنسيقي ما سماها التجاوزات الخطيرة على المؤسسة القضائية، ورفض تلقي أي رسالة أو دعوة من التيار الصدري للحوار المباشر معه قبل تراجعه عما وصفه بـ"احتلال مؤسسات الدولة"، والعودة إلى صف القوى التي تؤمن بالحلول السلمية الديمقراطية، حسب تعبيره. وحمّل الإطار التنسيقي الحكومة العراقية مسؤولية الحفاظ على ممتلكات الدولة وسلامة الموظفين والمسؤولين.
مذكرات قبض!
ومِن بين أبرز مَن صدرت ضدهم مذكرات اعتقال بتهمة تهديد القضاء، القيادي الصدري والنائب السابق الشيخ صباح الساعدي، الذي هاجم القضاء، بعد صدور أوامر إلقاء القبض عليه، وتساءل في تغريدة: "هادي العامري اعترف بتهديد القضاء جهاراً نهاراً، فأين أنتم عنه؟ نوري المالكي وتسريباته التي هددت السلم المجتمعي واقتحام النجف وقتل الصدر القائد، فأين أنتم؟ الفاسدون الذين اعترفوا علناً في الإعلام بأخذ الرشاوى والفساد، أين أنتم منهم؟". وختم بالقول: "لا أخاف ولا أهاب السجن أو الاعتقال، ولم ولن أسكت عن الفساد والظلم".
وأصدر القضاء أيضاً مذكرة قبض بحق القيادي الصدري الشيخ محمد الساعدي، ما دفع عشيرة السواعد إلى إعلان "التحشيد العام لمحاسبة فائق زيدان عشائرياً، حيث اعتبرت العشيرة أن في هذا استهدافاً شخصياً من قبل القضاء". وبذات التهمة، أي تهديد القضاء، صدرت مذكرة قبض ضد النائب المستقيل عن التيار الصدري غايب العميري. وإلى جانب مذكرات القبض ضد قيادات صدرية، اتخذت محكمة تحقيق الكرخ الأولى إجراءات قانونية بحق قائد الفرقة الخاصة، الفريق حامد الزهيري، وآمر اللواء 56 العميد عمار عبد الزهرة عبد الحسين المسؤول عن حماية المنطقة الخضراء، وذلك "لإخلالهما بواجبات وظيفتهما والسماح لجهات خارجة عن القانون بمحاصرة مبنى مجلس القضاء الأعلى".
"خطوة مفاجئة"
وفيما يواصل الشارع حراكا يطالب بإصلاح شامل للنظام السياسي، لوّح التيار الصدري بأخذ "خطوة مفاجئة لا تخطر ببال" من يوصفون بالفاسدين في البلاد، قائلا: "سنخطو خطوة مفاجئة أخرى لا تخطر على بالهم إذا ما قرّر الشعب الاستمرار بالثورة وتقويض الفاسدين". وأضاف التيار أن إعلان تعليق عمل القضاء لم يكن دستورياً، معتبرا هذه الخطوة بمثابة محاولة من القضاء لإبعاد الشبهات عنه بطريقة غير قانونية "خصوصاً أن التظاهرة كانت سلمية". وأورد التيار الصدري أن "القضاء سيحاول كشف بعض ملفات الفسـاد درءاً لاعتصام آخر، قائلا إن سقوط النظام الحالي في العراق "لا يحلو للبعض وعلى رأسهم السـفارة الأميركية"، بحسب تعبيره.