قصّة موجعة، ضجّ بها لبنان الذي تحاصره المآسي من قلب الانهيار المالي الكبير الذي حوّل غالبية شعبه إلى أجساد يائسة تستنجد باكيةً، فقد أثارت صورة المواطن اللبناني حسين البعريني وهو يحمل جثّة طفله الرضيع سيرًا على الأقدام، استنكار الناشطين وروّاد مواقع التواصل الاجتماعي، بعدما أُرفقت بخبرٍ مفاده أنّ إدارة مستشفى خلف الحبتور - حرار (شماليّ لبنان) التابع لصندوق الزكاة، رفضت تسليمه الجثّة إلا بعد أن ترك مفاتيح سيارته رهنًا لتسديد الفاتورة البالغة 2400 دولار أميركي، التي لم يكن يملك منها سوى 400 دولار.
صرخات كثيرة تعلو في الآونة الأخيرة والخوف من أن نصل إلى الامتناع عن التوجّه إلى المستشفى لتعذّر تأمين الكلفة بات واقعًا، وهذا بالفعل ما حصل مع البعريني الذي فقد ابنه لعدم تمكنه من تأمين المبلغ المطلوب، مناشدا المعنيين عبر "جسور" "النظر بأحوال المواطنين وسط الظروف العصيبة التي نعيشها جميعًا"، مردفًا بالقول: "أعمل ناطورًا في ثانوية فنيدق الرسمية، وراتبي بالليرة اللبنانية، كذلك فإنّ زوجتي لا تعمل، فكيف بإمكاننا أن نتحمّل تكاليف إضافية؟ ولم يبقَ أمامي سوى بيع أرضٍ زراعيّة كي أسدّد ديوني".
"دبّر حالك"!
حسين، ابن بلدة فنيدق (شمالي لبنان)، أوضح لـ"جسور" أنّ ابنه أحمد وُلد في المستشفى المذكور، وكان يعاني من ضعفٍ في النمو، ما استدعى بقاءه في الحاضنة منذ 25 يومًا، قبل أن أتلقّى اتصالاً من المستشفى صباح اليوم، يبلغني بوفاته". مضيفًا: "كنتُ قد دفعتُ سابقًا 8 ملايين ليرة لبنانية (نحو 192 دولارًا أميركيًّا وفق سعر الصرف في السوق الموازية) كلفة ولادة عندما أخرجتُ زوجتي من المستشفى، أضف إلى ما تكبّدته من كلفة فحص النمو والدواء والحليب والحفاضات طوال فترة بقائه في المستشفى. ولدى وصولي إلى قسم المحاسبة، طلبت منّي الموظّفة تسديد الفاتورة البالغة 2400 دولار أميركي، في حين أنّني لم أكن أملك سوى 400 دولار فقط لا غير".
وتابع حسين الأب لثلاثة أولاد: "بعد معرفة الموظفة بعدم وجود أيّ كفيل، طلبت مني الاتصال بالمفتي أو أحد النواب أو الفعاليات، ومن ثمّ سألتني عن نوع سيارتي وطلبت من أحد الأطباء تثمينها. ولم تقبل أن تمهلني يومين للدفع، على الرغم من أنّني كرّرتُ لها تعهّدي بأنّني لا أتهرّب من حقّهم.
لكن الموظّفة أصرّت على الاحتفاظ بمفتاح السيارة لحين تسديدي المبلغ الباقي، وقالت لي: "دبّر حالك". فتركتُ السيارة حفاظًا على كرامتي كي لا أشحذ من أحد، مع أنّني حاولتُ الاتصال بوجهاء المنطقة، من دون أن ألقى أيّ جواب".
وأضاف البعريني: "لقد تصرّفتُ بأخلاقي، وحملتُ ابني المتوفّى ومشيتُ نحو الشارع العام، في طريقي نحو دفنه. وتلقّيتُ بعدها اتصالاً من رئيس مجلس إدارة المستشفى الدكتور ربيع الصمد أبلغني فيه أنّ أحدهم تبرّع بالمبلغ وبإمكاني استرجاع سيارتي. وكان أقربائي بدورهم قد قصدوا المستشفى وسدّدوا الفاتورة، قائلين لإدارة المستشفى: "احتفظوا بالسيارة، لا نريدها".
ويشرح البعريني قائلا: "الاستشفاء لم يعدّ حقًا مؤمّنًا للجميع، الأزمة المالية قضت على آخر قطاع، الجهات الضامنة مكانها راوح، عاجزة أو متعذّر عليها تصحيح تسعيرة الطبابة، المستشفيات تواصل مهمتها واستنزاف الناس "على سعر السوق" أو "الفريش دولار"، في حين يقف المواطن مستسلمًا لأن من يحبه لن ينجو أو تجرى له العلاجات اللازمة إلا بعد تأمين المبلغ المطلوب".
المستشفى يستنكر
من جهته، استنكر رئيس مجلس إدارة المستشفى الدكتور ربيع الصمد، الحادثة في تصريح صحفي، قائلا: "فور معرفتي بالخبر اتصلتُ بوالد الطفل ونقلتُ له تعازينا الحارّة ورفضي الشديد لما حصل، وطلبتُ منه القدوم واستعادة سيارته، وذلك قبل مجيء أقاربه لتسديد المبلغ. كذلك فإنّ مديرة المستشفى اتصلت به، وأعدنا له السيارة. لكن للأسف هناك من حاول تكبير الموضوع والاستثمار فيه، علماً أنّنا نكتفي عادة بترك الهوية الشخصية لصاحب العلاقة أو توقيعه تعهّداً بالدفع، كي نضمن أتعاب الأطباء والمستشفى".
وأكّد أنّه "لم يحصل أيّ تقصير طبي أو إهمال بحقّ الرضيع، بل تلقّى على مدى 25 يومًا الرعاية الكاملة بفاتورة تقارب 2400 دولار أميركي، في حين أنّ كلفة هذه الأيام تصل إلى نحو 25 ألف دولار في مستشفيات أخرى".
وإذ تمنّى لو أنّ البعريني تواصل معه أو جمع التبرّعات لتسديد المبلغ، قال الصمد: "ندرك مدى صعوبة الوضع الاقتصادي في المنطقة، وحاجتها الكبرى للمساعدات والتقديمات. لذلك، فإنّنا كمستشفى خاص، نحاول قدر الإمكان مساعدة المرضى، علمًا أنّنا لا نضع أكلافًا مرتفعة، لكن للأسف، يتمّ دائمًا التصويب على المستشفيات والأطباء، ما ينذر بخسارة الاثنين معًا في المستقبل القريب، خصوصًا أنّنا نعاني نقصًا كبيرًا في الطاقم الطبي في البلاد، علمًا أنّ الطبيب يعرّض نفسه للخطر ويقوم بواجباته حتّى الرمق الأخير رغم كلّ الظروف الصعبة والقاسية".
إطلاق النار على المستشفى
الغضب الذي أثارته الحادثة بعد انتشارها على وسائل التواصل الاجتماعي، دفعت ببعض الشبان إلى إطلاق النار على المستشفى بهدف مصادرة مفاتيح سيارة البعريني. كما دفع برجل الأعمال الإماراتي خلف الحبتور، الذي تبرّع ببنائه إلى التغريد على حسابه على "تويتر": "ندعو من الله أن يسكن روح هذا الطفل الرضيع الملاك فسيح جناته ويلهم أهله الصبر والسلوان، نحن ندعم مستشفى خلف الحبتور في حرار لخدمة أهلنا في عكار، إلا أننا نرفض أيّ تصرف يبدي المصلحة على المواقف الإنسانية ونطلب التوضيح من إدارة المستشفى المستقلة والمسؤولة أمام الله والناس".
هي ليست المرة الأولى، التي ترتفع فيها الشكوى من مستشفى الحبتور وتعاطيه اللاإنساني مع المرضى، ولا يشفع لفقراء الحال أنّه تابع مباشرة لصندوق الزكاة في دار الفتوى في بيروت.