تكثر الصراعات في سهل نينوى وعليه. وذلك لكثرة التنوّع الحضاريّ الموجود في هذه المنطقة، ما سمح بتدخّلات خارجيّة جعلت من الأجواء الأمنيّة فيها متوتّرة معظم الأحيان.
فصارت هذه المنطقة إحدى أهمّ مناطق النزاع في الداخل العراقي بين بغداد وإربيل، وفي الإقليم بين إيران وتركيّا.
لا يمكن في هذا السياق استبعاد المشاريع الأيديولوجيّة الكبرى التي تسعى لربط بعض الدّول العربيّة وفق هذه القاعدة حيث يعمل الموالون للمشروع الإيراني في هذه المنطقة لتأمينها وتحقيق الهدف المنشود لهم في نشوء الهلال الشيعي الذي لا بدّ أن يمرّ من نينوى لربط إيران بسوريا ولبنان. فما هو السبيل إذًا لتحرير منطقة سهل نينوى من هذا المشروع الذي يفوق طاقاتها الحضاريّة؟
واقع الأقليّات في سهل نينوى
في حديث لموقع جسور مع السياسي الأشوري العراقي، قائمقام قضاء تلكيف، ورئيس حزب أبناء النّهرين، الأستاذ باسم بلّو، لفت إلى أنّ "سهل نينوى هو مكان تواجد الأقليات من الاشوريّين، بما فيه من تسميات متعدّدة: كلدان وسريان وآراميين .... الخ، وكذلك من الإيزيديّين والذين يمتدّ وجودهم إلى آلاف السنين، والشبك أيضًا، وهم متواجدون في سهل نينوى لمئات السنين ."
وتابع بلّو "إلا أنّ المنطقة تعرّضت وعلى مدى عقود من الزمن إلى تغييرات ديموغرافيّة ضمن سياسات ممنهجة خلال حكم الأنظمة السابقة ولاتزال مستمرّة، وذلك لإحداث تغيير سكاني وتهجير الأقليّات للإستيلاء على الأرض من خلال حملات التعريب والتكريد وآخرها التّشَيُّع ."
فبالنسبة إلى بلّو " لقد توسّعت دائرة الصراع في هذه المنطقة بعد عام 2003 ليس فقط لتكون بين بغداد وإربيل، وإنّما لتكون ساحة للتدخل الإقليمي لكلّ من إيران وتركيا، من خلال استغلال الإثنيات أو المذاهب الموجودة في سهل نينوى."
الحلّ بإدارة ذاتيّة للحفاظ على خصوصيّة منطقة سهل نينوى
ورأى بلّو أنّ "هذا أدّى إلى تناقص في أعداد الأقليّات بشكل كبير جدًّا في عموم العراق، وبشكل خاص في سهل نينوى. والسبيل للحفاظ على خصوصية منطقة سهل نينوى والأقليات المتواجدة فيها هي بإبعاد المنطقة من الصراع القائم بين أربيل وبغداد وإخراجها من دائرة المناطق المتنازَع عليها، مع ضرورة سنّ قوانين تعالج التغيير الديموغرافي التي حصلت وتحصل في سهل نينوى. وإناطة إدارة المنطقة بأبنائها من المكوّنات ذات الخصوصيّة المختلفة عرقيًّا ودينيًّا عن المكوّنات الأخرى ذات الأغلبية."
وأشار قائمقام تلكيف الأستاذ باسم بلّو أنّه "من الممكن أن تشكّل إدارة ذاتيّة أو تكون إقليمًا ضمن العراق الفيدرالي، بحسب ما نصّ عليه الدستور العراقي النافذ." وعلّل بلّو ذلك لأنّ "المنطقة تمتلك كلّ المقومات من الجغرافيا والموارد البشرية والاقتصاديّة. وبذلك نضمن استمرار بقاء الأقليّات وخصوصيّتها في سهل نينوى."
أمّا السبيل لحماية حقوق وحريات هذه الأقليات المضطهَدَة في سهل نينوى، فبحسب بلّو "يحتاج ذلك إلى تدخّل ودعم دوليَّين لحماية الشعوب الأصليّة من الأشوريّين والأيزيديّين، على أن تقوم الحكومة العراقية بسنّ قوانين وتشريعات تحمي تمثيلهم الحقيقي في البرلمان العراقي من خلال حماية الكوتا الممنوحة لهم في الانتخابات، بوجود صناديق اقتراع خاصّة بالأقليات المذكورة، وحصر التصويت لمرشحي الكوتا بأبناء هذه الأقليّات، شرط أن يكون لأعضاء البرلمان الفائزين حقّ الفيتو في ما يخصّ القوانين والتشريعات التي تمسّ هذه الأقليات."
كذلك لفت بلّو إلى ضرورة "أن يكون هناك مشاركة وتمثيل حقيقيَّين للأقليات في كلّ مفاصل الدولة التشريعيّة والتنفيذيّة والقضائيّة. وبذلك سوف تشعر هذه الأقليّات بوجودها الحقيقي في الدولة العراقيّة. وكذلك، يكون بإمكان ممّثليهم دعم وجودهم وبقائهم في سهل نينوى."
وختم بلّو حديثه لموقعنا مؤكّدًا أنّه "من الأمور المهمّة تخصيص كوتا اقتصاديّة خاصّة لمنطقة سهل نينوى ومناطق تواجد هذه الأقليّات تمكّنها من إحداث تنمية اقتصاديّة في السّهل، كما تمكّنها أيضًا من العيش بكرامة. وإلى جانب ذلك تشكيل قوّات أمنيّة ترتبط ضمن المؤسّسات الرسميّة للدولة تكون مهامها حماية سهل نينوى."
وفي هذا السياق، بعد التقصّي الذي قمنا به كباحثين في الشأن الدّولي والإقليمي عامّة والعراقي خاصّةً، تبيّن لنا أنّ في اجتماعٍ لمجلس الوزراء العراقي في شهر يناير/كانون الثاني من العام 2014 طُرح مشروع قانون يقضي بتحويل عدّة مناطق إلى محافظات ومنها سهل نينوى.
وكانت هناك موافقة مبدئيّة. ولكن لم يأخذ هذا الاقتراح سبيله إلى الإقرار في مجلس النواب العراقي حتّى اليوم بسبب انشغال الحكومة العراقيّة بالتظاهرات وبمواجهة نفوذ الميليشيات، ناهيك عن الأزمة الاقتصاديّة المستفحلة.
الأفق مسدود في الوقت الراهن
كذلك كان لموقع جسور حديث مع الأستاذ خضر دوملي، عضو مركز دراسات السلام في جامعة دهوك، وباحث مختصّ في حلّ النزاعات، وبناء السلام، وشؤون الأقليات في العراق الذي أفاد بأنّه " لا يبدو في الوقت الحاضر أي فرصة لإمكانية الحفاظ على خصوصية سهل نينوى كموطن للأقليات الدينية والقومية، وخاصة المسيحيين بمختلف طوائفهم ومذاهبهم، والإيزيديين والشبك وبعض من التركمان والكاكائيّة. "ورأى أنّ "الفرص في تحقيق أي شكل إداري ذاتي في الوقت الراهن هي معدومة بسبب السبل الإدارية المتبعة في العراق للتطوير الإداري والتخطيط الحضري"، بسبب تأثرها بالصراعات السياسية و المنافسة بين الجماعات السياسية ذات الابعاد والانتماءات المذهبية ".
كما أشار الأستاذ دوملي " أنّه خلال السنوات الخمسة عشرة الماضية كانت هناك الكثير من المبادرات لفتح أقسام بلدية لإنشاء نواحي، حتّى كانت هناك قرارات بتطوير المنطقة وتحويلها الى محافظة، حيث صدرت بعض قرارات مجلس الوزراء بالموافقة في هذا الأمر لكنّها لم تطبّق على أرض الواقع."
ويعود السبب برأيه لرغبة الحكومات المتعاقبة التي لم تتعدَّ التصريحات الإعلاميّة لإرضاء المسيحيين والإيزيديين خاصّة بعد تعرّضهما إلى الكثير من أعمال العنف الديني والطائفي التي حصلت اعتبارًا من العام 2004 وبعدها، وصولاً الى عمليات الابادة الجماعية ضدّ الايزيدية والمسيحيّين في أغسطس 2014 على يد تنظيم داعش، والتي على إثرها فقدت المنطقة شيئا فشيئا خصوصيتها السكانية ".
كما أعاد دوملي صعوبة ذلك إلى " تحوّل طابع المنطقة إلى النفوذ الشيعي بعدما أصبح الشيعة اكثريّة فيها." وباعتقاده لا يظنّ بأنهم سيسمحون بتشكيل كيان خاص للأقليات في سهل نينوى. وبرأيه ذلك بسبب "وجود سياسات مبرمجة وممنهجة لتحقيق التغيير الديمغرافي في هذه المنطقة، وبسبب التغييرات الديموغرافية التي تشهدها تلكيف حيث لم تعد ميدنة مسيحية أيضًا،
كيفيّة إنجاح هذه المبادرة الوجودية
لكن بنظرة متفائلة رأى دوملّي أنّ "السبيل الأمثل لتحقيق هذا الأمر هو بإصدار تشريع خاص بتحويل منطقة سهل نينوى إلى محافظة وضمان حدودها من منطقة شيخان وبعشيقة وبرطلّة والحمدانية وتلكيف والقوش." وعلى الرغم من سهولة تحقيق هذه المسألة على الورق لكن على أرض الواقع يبدو أنّ هنالك صعوبة كبيرة.
وبحسب دوملّي " لإنجاح أي تنظيم إداري في منطقة سهل نينوى ضرورة تحقيق الشروط الآتية:
1- ضرورة تفريغ المنطقة من كلّ التشكيلات العسكرية.
2- بناء تشكيل حكومي موحد وتشكيل إداري يتمّ القبول به من قبل إقليم كوردستان ومحافظة نينوى لأنّها ستكون حدود فاصلة بين المنطقتين.
3- صياغة تفاهمات دوليّة وإقليمية ومحلّيّة حتّى يتحقق هذا الأمر.
4. تحقيق تفاهمات مسبقة على الشكل الإداري للمنطقة بين المسيحيين والايزيديين، أي بمعنى آخر رسم واقع المنطقة بالتشارك والتفاهم بين هذه المكونات أولاً و أخيرًا لأنّ ذلك هو أساس نجاح أيّ مبادرة لتحقيق الاستقرار في سهل نينوى."
ولكن لا يعتقد دوملّي أنّ هنالك قوى على الأرض تستطيع بناء هذا الهيكل المؤسسي بسبب ضعف الدولة العراقية ومؤسّساتها نتيجة للحرب مع داعش وتأثيراتها في محافظة نينوى، وعدم ثقة أهل المنطقة بأي مبادرة لتحقيق الإستقرار الذي يجب أن يكون العامل الأوّل مع الدعم الدوليّ.
وختم حديثه لموقعنا مفيدًا بأنّ "هذا ما يضمن عدم زحف أيّ مكوّن حضاري بهدف تغيير ديموغرافيّتها كما حصل في منطقة تلكيف التي كانت واحدة من اكبر التجمعات المسيحية في منطقة سهل نينوى ولكنها لم تعد كذلك في الوقت الحاضر."
في الخلاصة، إنّ الملف الأمني في منطقة سهل نينوى يعدّ من أبرز المعوّقات التي تحدّ من إمكانيّة تحوّل هذه المنطقة إلى نوع من الإدارة الذاتيّة. فضلاً عن استخدام بعض الجهات حجّة توفير الأمن لتتمركز عسكريًّا وأمنيًّا فيه، مع الإشارة إلى أنّ أغلب نقاط التفتيش يتحكّم فيها الحشد الشعبي، وهذا يضمن لهم سطوة شبه كاملة على الملف الأمني، ويدرّ عليهم منافع سياسية واقتصادية، مع حضور خجول لقوات الجيش والشرطة العراقية في بعض المواقع. فهل من مصلحة هؤلاء المعرقلين كلّهم بقاء منطقة سهل نينوى أرضًا للصراع عوض تمكينها من الإدارة الذاتيّة خشية من أن تتحوّل إلى منافس حضاريّ وسياسيّ واقتصاديّ؟