مع إطلالة العام 2022، بدا وسط العاصمة المصرية وكأنه متحف مفتوح، لقبت القاهرة بـ"باريس الشرق"، في عهد الخديوي سعيد قبل نحو 150 عاما، وسبب إطلاق اللقب على القاهرة، "باريس الشرق"، هو أن تصميمها استوحى من تخطيط العاصمة الفرنسية.
بدأت الوزارات والأجهزة الحكومية إخلاء المباني وسط العاصمة تمهيدا للرحيل إلى العاصمة الإدارية الجديدة، وتم إخلاء مجمع التحرير المبني منذ عهد الملك فاروق على مساحة 28 ألف متر، وترتفع طوابقه إلى أربعة عشر طابقا، وأنشئ بتصميم يشبه السفينة، وكان يطلق عليه "جمهورية الموظفين"، واحتل في نفوس المصريين لعقود "رمز البيروقراطية"، لكنه الآن يخضع للتطوير، وطرح في مناقصة فاز بها تحالف أميركي مصري كبير يضم غلوبال فينتشرز، وأكسفورد كابيتال، إضافة إلى شركة عتيبة للاستثمار المصرية.
وأعلنت الحكومة المصرية أنه سيتم ضخ أكثر من ثلاثة مليارات ونصف المليار جنيه مصري من أجل التطوير، وليكون المبنى متعدد الاستخدامات.
ظن كثيرون أن العاصمة الإدارية الجديدة ستدشن العاصمة إلى النسيان، وتنزوي القاهرة الجميلة بعبقها القديم، لكن الحقيقة جاءت مخالفة لكل التوقعات، فالتطوير الجديد يبدو مبهرا.
عن القاهرة الخديوية
ويرى أستاذ الآثار الإسلامية الدكتور أحمد الصاوي في حوار مع "جسور"، أنه "ربما يكون قد تأخر هذا المشروع قرابة الربع قرن ولكن أن تأتي متأخرا خير من أن لا تأتي".
ويضيف أن "القاهرة الخديوية كانت أهم مشروع عمراني في النصف الثاني من القرن التاسع عشر وصاحب فكرته هو الخديوي إسماعيل الذي زار باريس عام 1867م وأبدى إعجابه الشديد بالمدينة ولما سمع أن مصمم تخطيطها الحديث هو المهندس هاوسمان طلب من نابليون الثالث أن يسمح له بالاستعانة بخدمات المهندس لتصميم وسط القاهرة".
ويوضح أن "القاهرة الخديوية تمتد من كوبري قصر النيل غربا إلى ميدان العتبة شرقا وتبدأ جنوبا من ميدان القلعة وصولا للأزبكية في الشمال وقد بدأ ذلك المشروع الهائل بشق شارع محمد علي الذي اكتسح أمامه العشرات من المباني القديمة والأثرية حتى انتهى بإزالة مقابر العتبة الخضراء".
ويضيف أنه "أطلق على وسط القاهرة آنذاك باريس الشرق نظرا لأن تخطيط شوارعها وتوزيع المباني على جانبيها اقتبسه هاوسمان من تخطيط باريس حتى أن حديقة الأورمان كانت بمثابة غابة بولونيا خارج باريس".
وبحسب الدكتور الصاوي، فإن "مباني القاهرة تميزت عن باريس بأنها كانت تعكس طبيعة خاصة متفردة لأن من قاموا بتصميم المباني جاءوا من دول أوروبية عدة وحرص كل مهندس على أن يحاكي الطرز المعمارية السائدة في بيئته الأصلية.
ولذا تنوعت التصميمات والطرز لتعكس الطابع المعماري لدول حوض البحر الأبيض وخاصة من فرنسا وإيطاليا فضلا عن الطابع الأدرياتيكي بل ولم يخل الأمر بالطبع من مشابهات للعمارة البريطانية بمختلف أطوارها".
ويذكر الصاوي أنه "خلال فترة السبعينات ومع بداية الانفتاح الاقتصادي تعرضت مباني القاهرة الخديوية للعديد من الخسائر بدأت بحريق الأوبرا عام 1971 ونالت الروح الاستهلاكية بشكل فظ من واجهات العمائر والمحلات ناهيك عن الاستخدام السيء للمساحات الداخلية بالتعديل والتغيير على غير هدى".
ويضيف أستاذ الآثار الإسلامية أن "مشاريع سابقة حاولت الحفاظ على طابع الواجهات في المباني القديمة ولكن تأثير ذلك كان محدودا للغاية ولم يتجاوز شوارع عدة في قلب القاهرة".
ويوضح الصاوي أنه "مع اقتراب إفتتاح العاصمة الإدارية الجديدة وشروع العديد من الوزارات والإدارات الحكومية التي تشغل عددا معتبرا من المباني التاريخية كان لابد من العمل بسرعة لمنع النمو العمراني الحداثي من التهام المباني القديمة لاسيما مع الارتفاع المرتقب في أسعار الأراضي على وقع ما هو معروف من سعي لتحويل القاهرة القديمة لوجهة سياحية".
ويشمل مشروع الحفاظ على القاهرة الخديوية 500 عقار بشكل أولي ستجرى لها عمليات صيانة وكذلك إزالة لكل التعديات التي غيرت من طابعها الأصلي أو أخفته بما في ذلك بروز المحلات وتعدياتها على الأرصفة فضلا عن إعادة واجهاتها لما كانت عليه وقت الإنشاء وذلك من خلال الصور الفوتوغرافية والأفلام القديمة.
وجه حضاري وإنساني للقاهرة
ويعتبر الدكتور أحمد الصاوي أن "المشروع سيمنح للقاهرة وجها حضاريا وإنسانيا تستعيد به هويتها ذات الطابع العالمي والحداثي وهي خطوة مهمة للحفاظ على طابع العراقة فيها وبحساب العوائد المالية فإنه سيجعل منها وجهة سياحية هامة لاسيما مع الاتجاه نحو تحويل منطقة ماسبيرو باتجاه النيل لمنطقة فنادق سياحية وكذلك التطوير المستمر للقاهرة التاريخية لتكون وجهة سياحية ذات طابع تراثي.
وسينقذ المشروع مبان تعدّ من أهم الإنجازات الهندسية المعمارية بعد أن تم مسخ شخصيتها وكان السعي على أشده لتحويلها إلى أنقاض من أجل إقامة أبراج سكنية وإدارية".
ويختتم الصاوي متمنيا أن "يرتبط ذلك بالتفكير مليا في تخطيط الأنشطة التجارية والسياحية في محيط القاهرة الخديوية لتعظيم عوائد التشغيل السياحي وللحفاظ على قدر من السكينة والسيولة المرورية فيها".
كما يعتبر أن "الإعلان بشكل شفاف عن أعمال التطوير والشركات والخبرات التي ستشارك في هذا العمل الهام سيكون مفيدا لمنع ليس فقط الممارسات الاحتكارية بل لإتاحة الفرصة أمام الخبراء والعلماء والهيئات والجمعيات ذات الصلة لإبداء الرأي وبذل المشورة للخروج بأعمال التطوير على الوجه الأكمل وبالتكلفة التي لا ترهق الميزانية الحكومية"، على حد تعبيره.
ويمكن القول إن ما تشهده العاصمة المصرية ليس تطويرا بقدر ما هو استعادة للهوية، والوجهة الحضارية.