قد يكون الكورونا أكثر ما يُخيف معظم دول العالم اليوم، لكن في لبنان هناك ما هو مرعب أكثر. على الأقل فإنّ الالتزام بالإجراءات الوقائيّة كافية لتجنّب انتقال عدوى الكورونا بين المواطنين، لكن أيُّ إجراءات تحمي الشّعب من فيروس إهمال يصيب المسؤولين على مدى سنوات؟ ولعلّ أبرز الأزمات المتفاقمة في البلاد هي الأزمة المروريّة.
محمد أحمد... آخر الضحايا
حوادث السّير شبه يوميّة، ضحايا بالمئات سنويًّا وآخرهم الشاب الثلاثيني محمد أحمد.
كان محمد يقود دراجته النارية على الطريق العام في العاصمة بيروت. وبسبب العتمة نتيجة انقطاع الكهرباء وغياب أيّ إنارة على الأوتوستراد، اصطدمت درّاجتُه بألواح اسمنيّة. انقلبت الدراجة وأُصيب محمد برأسه، حاول المارّون إنقاذه والاتّصال بفرق الإسعاف لكن سرعان ما فارق الحياة.
مصادر أمنيّة لـِ"جسور" لم تنفِ أنّ الطّريق كان مظلما لكنّها أشارت إلى أنّ الحادث وقع بالقرب من قصر الأونيسكو خلال عقد المجلس النيابيّ جلسة الثّقة. ومنًعا لاقتراب الآليّات، أقفلت الأجهزة الرّسميّة الطريق بالأشرطة. لكن وبحسب الرّواية الامنيّة، فإنّ محمّد اجتاز الأشرطة وأكمل طريقه مسرعًا. وبعد دقائق اصطدم بألواح إسمنيّة كانت موضوعة بالقرب من قصر الأونيسكو ضمن سلسلة الإجراءات الأمنيّة المُتّبعة.
الطرقات من سيّئ إلى أسوأ
حتّى قبل نفاد مادّة المازوت وقبل التقنين القاسي بالتيّار الكهربائيّ، نادرًا ما كانت الإنارة تمرّ على الطّرقات العامّة. فما بالكم اليوم؟ لا شيء يُنير الطّرقات إلّا أضواء السيّارات، وما زاد الوضع خطورة هو توقّف إشارات السّير عن العمل. بعضُ الإشارات معطّلة وما من ميزانيّة كافية لإصلاحها، وبعضها الآخر لا يعمل نتيجة انقطاع الكهرباء.
منذ سنوات والخبراء المروريّون يطالبون بوضع مكعّبات عاكسة للضوء، لكن هذا لم يحصل ما فاقم الوضع اليوم وبات السائقون متروكين لمصيرهم. كذلك لم توضع ألواح عاكسة للضوء عند مفترق الطرقات والجسور.
أمام هذا الواقع المُعيب، لم يَعُد مستغربًا أن تكون نسبة حوادث السّير شبه ثابتة على مدى أكثر من عشر سنوات. إن اخترنا عيّنة زمنيّة ممتدّة من 2013 إلى 2020، يتّضح لنا أنّ في كلّ هذه المدّة كانت أرقام حوادث السّير وأعداد الضحايا متشابهة. طوال هذه الفترة لم تكن أرقام الضحايا أقل من 400 سنويًّا. صحيح أنّ المواطنين يتحمّلون جزءًا من المسؤوليّة نتيجة إهمالهم لإجراءات السلامة العامة إن كان من خلال الامتناع عن وضع حزام الأمان أو استخدام الهاتف أثناء القيادة أو تخطّي السّرعة المسوح بها. لكن في المقابل، فإنّ الجهات الرسميّة المعنيّة لم تبادر الى تغيير واقع الطّرقات في العاصمة والمدن والبلدات والمناطق الجبليّة الوعرة. وكذلك فإنّ تطبيق قانون الّسير يحضر فجأة ومن ثمّ يغيب. وفي هذا السّياق، فإنّ معلومات أمنيّة تؤكّد أنّ هناك نقصًا بأعداد شرطة السّير نتيجة الأزمة الاقتصاديّة وتدنّي قيمة الرّواتب وبات توزيع العاملين في هذا المجال يقتصر على عدد محدّد من النّقاط الحيويّة في البلاد. هذا إضافةً إلى الحفر والحفريّات والتشقّقات نتيجة غياب الصيانة الدّوريّة.
إهمال موصوف
عند أوتوستراد شكا (شمالي لبنان)، انهار جزءٌ من الجبل عام 2018، وبات الطريق يُشكّل خطرًا على المارين، فوضعت وزارة الأشغال حواجز إسمنتية من دون إصلاح الطريق حتّى اليوم.
حوادث متعدّدة وهذا الأمر يُشكّل خطرًا يوميًّا جديًّا نظرًا إلى أنّ هذا الطّريق دوليّ وسُجّلت فيه حوادث سير متفرّقة في الآونة الأخيرة لا سيّما في فصل الشّتاء.
في المقلب الآخر، سُجّل بعضُ الحوادث بسبب الطوابير أمام المحطّات والّتي يتفاجأ بها المارّون إضافة إلى السيّارات الّتي تتّجه إلى المحطّة عكس السّير. وهذا ما أدّى إلى الحادث المروّع قبل اشهر والّذي توفّيت فيه أمّ وبناتُها عند أوتوستراد السّعديّات. يحصل هذا المشهد أمام أعين الأجهزة الأمنيّة وما من أحد يُحرّك ساكنًا أو يحاول تنظيم المشهد العشوائي أمام المحطّات. وما يزيد الطين بلّة هو أنّ الناس أيضًا يركنون سيّاراتهم ليلًا أمام المحطّات بغية تعبئتها صباح اليوم التالي، وذلك من دون وضع أي لوحة عاكسة للضوء لتحذير المارّين.
لبنان إذًا من أكثر البلدان الّتي تُسجّل هذا الكم من الحوادث والضحايا قياسًا بحجمه وعدد سكّانه.
رئيس جمعيّة "يازا" زياد عقل يوجّه رسالة إلى المعنيّين محذّرًا من الأخطر في حال استمرّ الوضع على حاله. وأكّد عقل ضرورة الإسراع في تخصيص ميزانيّة لإصلاح الأعطال وتأمين طرقات آمنة للآليّات على اختلاف أنواعها.
انخفاض نسبة الحوادث في 2021
بحسب المعلومات، فإنّ الحوادث انخفضت بشكل ملحوظ مع بداية العام الحالي حتّى اليوم. ليس لأنّ الوزارات المعنيّة طوّرت خططها، بل لأنّ المصائب لا تخلو أحيانًا من الفوائد. أزمة المحروقات وما تلاها من صعوبة في تعبئة السيارات بالبنزين، أدّت إلى تخفيف حركة السيّارات على الطّرقات. حتّى أنّ من يتمكّنون من الحصول على البنزين، فإنّهم يحاولون قدر المستطاع استخدام سيّاراتهم للأمور الضروريّة فقط اما خوفًا من الانتظار في الطوابير مجدّدًا وإمّا بسبب ارتفاع سعر صفيحة البنزين. وكان قد سبق أزمة المحروقات، أزمة كورونا وإقفال عام متكرّر وإقفال المؤسسات التجاريّة ومنع الناس من الولوج إلى الشّوارع إلّا وفق اوقات محدّدة.
الكورونا لا يدوم وأزمة المحروقات لا تدوم، وعليه فلا حل للأزمة المروريّة إلّا بوضع استراتيجيات رسميّة. لكن المشكلة أنّ الإهمال يدوم والاستهتار يدوم واللّا مبالاة تدوم.
تتكرّر المصائب ولا يتعلّم المسؤولون منها شيئًا، كأنّ أمًّا لم تنكسر وكأنّ أحلامًا لم تُقتَل وكأنّ مأساةً لم تحصل. هذا هو اختصارٌ لمعنيّين لا وقت لهم لإنقاذ حياة الناس. هذا هو اختصار لمسؤولين يختارون دائمًا الخيار الأسهل. بدل تأمين حقوق الناس، من الأسهل القضاء على الناس والإدّعاء أنّ رحيلَهم قضاء وقدر.