قبيل عقد البرلمان اللّبناني جلسةَ الثّقة، سال العرق على جبين النوّاب. لا من كثرة التعب ولا من كثرة القلق على حقوق الناس، بل بسبب انقطاع التيّار الكهربائي على الرّغم من أنّ الجلسة مقرَّرة من ثلاثة أيّام في قصر الأونسكو.
كاد النوّاب يفقدون أعصابهم، فهم على عكس من يمثّلون غير قادرين على التكيّف مع الذّل. يجول النوّاب في الصّالة الرّئيسيّة، وجوههم شاحبة، يراقبون عقارب السّاعة ويمتعضون من الحرّ. لو أدرك ممثّلو الشّعب مصائب الشعب لهانت مصيبتهم،عسى أن يُخبرهم فاعل خير أنّ الكهرباء على أنواعها لا تزور منازل النّاس وأنّ التذمر بات لغة مشتركة بين المواطنين وأنّ طوابير الذل باتت أطول من صبر المنتظرين فيها.
بعد أكثر من ساعة، حُلَّت مشلكة الكهرباء ودخل النوّاب إلى الجلسة للاستماع إلى البيان الوزاريّ بغية إعطاء الثّقة للحكومة أو حجبها عنها. هذا علمًا أنّ كلّ كتلة نيابيّة حسمت موقفها مُسبقًا.
الحكومة نالت الثقة
لم تسلم جلسة الثّقة من المواقف المحتدمة لعلّ أبرزها إشكال بين نائب رئيس مجلس النواب إيلي الفرزلي والنائب جبران باسيل على خلفيّة اتّهام باسيل عددًا من النوّاب والوزراء وأصحاب النّفوذ بتهريب أموال إلى الخارج تصل قيمتها إلى خمسة ملايين دولار عبر إحدى شركات الشّحن. الفرزلي رفض هذا الكلام وأعدّه اتهامًا لكلّ النوّاب ومفتقدًا للدليل والإثبات. وحين طلب رئيس مجلس النواب تسمية هؤلاء النواب والوزراء، كان رد باسيل أنّه ليس جهة قضائيّة. تعدّدت المواجهات بين النوّاب لكنّ النتيجة واحدة وهي منح حكومة ميقاتي الثّقة. كلّ النوّاب منحوا الثّقة للحكومة، باستنثاء أعضاء كتلة "الجمهوريّة القويّة" وعدد من المستقلّين. وبالتّالي حازت الحكومة على 85 صوتًا ثقة و15 صوتًا لا ثقة، فالبرلمان اللّبناني يضمّ اليوم 118 نائبًا من أصل 128 بعدما استقال ثمانية نوّاب وتوفّي اثنان. اللّافت أنّ هناك كتلًا لم تقبل تكليف الرّئيس نجيب ميقاتي خلال الاستشارات النيابيّة، لكنّها اليوم منحته ثقتها. ومن هذه الكتل، تكتّل "لبنان القويّ" برئاسة النائب جبران باسيل. عضو التكتّل النائب سليم عون يقول في حديث إلى "جسور" إنّ التيّار الوطنيّ ليس متشبّثًا برأيه، بل منح الثّقة لسببين. السببُ الأوّل هو أنّ ميقاتي حافظ على التّشاور المستمرّ مع رئيس الجمهوريّة ميشال عون خلال عمليّة التأليف، والسبب الثاني هو احتواء البيان الوزاريّ على بنود رئيسيّة من بينها التدقيق الجنائي والبطاقة التمويلية والتفاوض مع صندوق النقد الدّولي. وأّكّد عون أنّ من الضّروريّ النّظر بإيجابيّة وبنيّة حسنة، ومن هذا المنطلق فضّل التكتّل إعطاء الثقة ومحاسبة الحكومة لاحقًا في حال أخطأت. في المقابل، يرفض حزب القوّات اللّبنانيّة إعطاء أي فرصة للحكومة. في هذا السّياق رأى عضو كتلة "الجمهوريّة القويّة" زياد حوّاط أنّ النتيجة واضحة سلفًا وأنّ الآليّة الّتي تألّفت بها الحكومة خير دليل. وأضاف لـِ"جسور" إنّ هذه الحكومة تعتمد النّهج نفسه الّذي عزل لبنان عربيًّا ودوليًّا. ووصف حوّاط الحكومة الحاليّة بـ"حكومة إيران" و"حزب اللّه" إذ لا يجرؤ الوزراء على التصدّي للبواخر الإيرانيّة.تحدّيات تواجه الحكومة
المحروقات من إيران لن تكون الملف الشّائك الوحيد، بل تواجه حكومة "معًا للإنقاذ" تحدّيات كثيرة لاسيّما التحقيقات في انفجار مرفأ بيروت والوضع المالي والاقتصادي المتردّيين.
في ما يتعلّق بمرفأ بيروت، احتمى المدّعى عليهم بالحصانات رافضين المثول أمام المحقّق العدلي القاضي طارق البيطار. لكن اليوم، لم يعد المجلس النيابي بحال انعقاد دائم وبالتّالي سقطت الحصانات تلقائيًّا إلى حين انطلاق العقد الثاني من المجلس بعد الخامس عشر من تشرين الأوّل المقبل. وبعد ذلك تعود الحصانات من جديد. هي مسألة ايّام، يحاول فيها القاضي بيطار استغلال المهلة المتاحة لاستدعاء من سقطت حصاناتهم. كيف ستتعامل الحكومة عمومًا ووزيرُ العدل خصوصًا مع التحقيقات المستمرّة؟ كيف تواجه الحكومة أي تدخل سياسي في مسار التحقيق؟ وهل يحظى القضاء باستقلاليّة تحميه من التّرهيب والتّرغيب؟
أمّا بالنسبة إلى صندوق النّقد الدّولي، فلا يكفي استئناف المفاوضات. شروط الصّندوق لمساعدة لبنان لم تتغيّر منذ اكثر من عام ومن بينها ضبط الحدود البريّة وإيقاف التهريب، الحد من العجز التّجاري، ضبط التهرّب الضّريبيّ ورفع تعرفة الجمرك على البضائع. ودعم صندوق النّقد للبنان قد يفتح الباب أمام مساعدات أخرى من دول متعدّدة وفق الأطر والمعايير الّتي رسّخها الصندوق. خبراء اقتصاديّون يؤكّدون أنّ الإصلاحات المطلوبة عالية السّقف. شروط الصّندوق لم تتمكّن الحكومة السّابقة من تنفيذها، فما الّذي يجعل حكومة ميقاتي قادرة على تنفيذها؟
وزّعت الأحزاب السياسيّة الحقائب الوزاريّة فيما بينها على أساس طائفي، وها هي الحكومة اليوم تُطلق على نفسها شعار "معًا للإنقاذ". أغرقت المنظومة الشعب بالأزمات وها هي نفسها تحاول إنقاذه اليوم، على قاعدة "داوني بالّتي كانت هي الدّاء".