في الثاني والعشرين من شهر كانون الاول / ديسمبر من العام 1993 اطلق المؤتمر الدائم للحوار اللبناني مشروع الوثيقة التأسيسية، وذلك في اطار اطلاق حوار لبناني – لبناني شامل من اجل معالجة الازمات اللبنانية بعد انتهاء الحرب وحصول الانتخابات النيابية في العام 1992 وفي ظل مقاطعة مسيحية وبعد تولي الرئيس الراحل رفيق الحريري رئاسة الحكومة.
والمؤتمر الدائم للحوار اللبناني تجربة حوارية مهمة أطلقها المفكر الراحل الاستاذ سمير فرنجية بالتعاون مع عدد كبير من الشخصيات اللبنانية الاسلامية والمسيحية ومن ابرزهم العلامة الراحل السيد هاني فحص والكاتب الاستاذ محمد حسين شمس الدين والدكتور سعود المولى والنائب السابق الدكتور فارس سعيد وغيرهم العشرات من الشخصيات من كافة المناطق اللبنانية، وقد قام المؤتمر بعقد لقاءات حوارية في مختلف المناطق اللبنانية واصدر مجلة خاصة للحوار تحت عنوان: اوراق حوارية تضمنت وثائق ودراسات مهمة ونصوص حوارية حول تاريخ ومستقبل لبنان.
ومن اجل اطلاق عملية حوارية شاملة لمواجهة مختلف التحديات التي يواجهها لبنان في تلك المرحلة، اصدر المؤتمر وثيقة تأسيسية للحوار، وقد جاء في مقدمتها:
"هذه الوثيقة تمثل خلاصة حوارات سياسية دؤوبة ومتواصلة، جرت على مدى سنة تقريبا بين مجموعات وأفراد وشخصيات من مختلف المناطق اللبنانية، مهتمة بالبحث عن السبل الكفيلة بإطلاق فاعلية سياسية وطنية، تعبر عن مشترك وطني جامع، وقادرة على مواكبة حركة المجتمع اللبناني المقبل على تثبيت السلم الأهلي وإعادة البناء ومواجهة تحديات كبرى بدأت ترتسم معالمها جرّاء عملية المفاوضات العربية الإسرائيلية وآفاق "النظام الدولي الجديد". هذا في وقت تتصدر الحياة السياسية اللبنانية قوى وأشخاص وعقليات ما زالت تنتمي بمعظمها الى مرحلة الحرب الأهلية، وتتميز بقدر كبير من الغربة عن المجتمع المدني وعدم الأهلية الكافية لادارة شؤونه ومواكبة حاجاته".
واهمية تلك الوثيقة انها اطلقت على اساس مبادئ ومنطلقات تنظر الى الواقع اللبناني بكل تنوعه وتعقيداته، وتتجنب إسقاط نظريات جاهزة عليه او تغليب رغبات فئوية، وتسعى الى اكتشاف وبلورة مفاصل اساسية يمكن ان ينعقد عليها جهد وطني تاريخي يضع السكة على أرض حقيقية وفي وجهة صحيحة.
واعتبرت الوثيقة: " إن فهم الواقع وإستشراف آفاق المستقبل، وبالتالي رسم خطة لانتقال صحي سليم باتجاه المرتجى، تتأمن من خلال حلقة اساسية هي عبارة عن منهج قبل أي شيء آخر. وهذا المنهج هو الحوار الوطني الديموقراطي الساعي لتطوير المساحات المشتركة وتعزيز التضامن حولها، بعيدا من نزعات الاجتزاء أو المصادرة، والتفكير بالمستقبل الواحد لجميع اللبنانيين وليس بمستقبل جماعة منهم".
واوضح المشاركون في اعداد تلك الوثيقة انها ليست نصا نهائيا ناجزا، وإنما نصا ابتدائيا، تمهيدا لاطلاق عملية حوارية تضامنية، في إطار يؤمن لها التراكم والفاعلية هو "المؤتمر الدائم للحوار اللبناني". وهذا النص مفتوح على التطوير، وننظر الى اكتماله النسبي من خلال القراءات المتعددة واللقاء مع الآخرين، ومن خلال اختبار الأفكار في الواقع، بما يؤمن للإطار صدقية حقيقية لا مدعاة، فلا محل لكلام بالنيابة عن الآخرين، ولا وجود لفئة او مؤسسة يمكنها اختصار الجميع أو الإستغناء عنهم.
هذه الوثيقة التاريخية والمنشورة في الموقع الالكتروني للقاء سيدة الجبل والذي يرأسه النائب السابق الدكتور فارس سعيد تستحق العودة اليها اليوم، لانها تستشرف مستقبل لبنان بعد انتهاء الحرب وبعد التوصل الى اتفاق الطائف والبدء بتطبيقه وحصول اول انتخابات نيابية بعد انتهاء الحرب، وتلك المرحلة تشبه الى حد ما المرحلة التي نعيشها اليوم، فلبنان شهد انتخابات نيابية في ظل انكفاء اهم مكون سني وهو تيار المستقبل، وفي ظل تحديات كبرى يواجهها لبنان داخليا وخارجيا تتطلب حوارا وطنيا شاملا، خصوصا ان العناوين التي وضعتها الوثيقة انذاك تشبه الى حد ما العناوين التي يثار الخلاف حولها اليوم ومنها:
اولا: تجديد صيغة التفاعل الإنساني التي عرفها لبنان وتطويرها.
ثانياً: فكرة التسوية وقيم التوسط والإعتدال.
ثالثاً: لبنان المعنى والدور والصيغة.
رابعا: مبادئ ومنطلقات في النظر الى الكيان والدولة والمجتمع في لبنان.
خامسا: قيام الدولة المدنية وخارطة الطريق اليها.
سادسا: إتفاق الطائف بناء الدولة والعلاقات اللبنانية السورية.
سابعاً: الاحتلال- المقاومة - المفاوضات وتحديات المرحلة المقبلة.
وقد وضعت الوثيقة اسسا للحوار حول كل هذه الموضوعات واليات الحوار وكيفية متابعته.
وقد قام المؤتمر الدائم للحوار اللبناني برئاسة الاستاذ سمير فرنجية بخطوات مهمة في هذا الاطار وانضم اليه الكثير من الشخصيات الفكرية والسياسية والدينية، ولكن للاسف مسيرة الحوار توقفت بعد رحيل فرنجية والسيد هاني فحص وانتقال الشخصيات الاخرى الى مواقع سياسية وفكرية وعملية.
فهل يمكن استعادة هذه التجربة اليوم والاستفادة من تلك الوثيقة المهمة وغيرها من الوثائق والتجارب الحوارية؟
لبنان اليوم يحتاج الى مؤتمرات حوارية جديدة فمن يتصدى لهذه المهمة الرسالية ويعيد الروح للمؤتمر الدائم للحوار اللبناني؟