كتب خالد العزي في جسور:
تصر روسيا بعزم على تغيير النظام العالمي الجديد وتفتخر بأنها تريد أن تصنع التاريخ الحديث للعالم، وتنهي عصر القطبية الواحدة في العالم. فروسيا تعتبر نفسها قوة قطبية عالمية تريد الجلوس والتفاوض نديًا مع امريكا على مصالحها الجيوسياسية المقبلة في العالم.
مخطئ من يقول بأن الحرب التي تخوضها روسيا في أوكرانيا هي ورطة من صناعة الغرب وأمريكا وهم من قاموا بتوريط الرئيس فلاديمير بوتين بها. لكن روسيا وبالمناسبة، دولة كبيرة، ولها مراكز دراسات للرأي والتخطيطـ، وتتحكم بقوة ناعمة وتملك نفوذًا في مناطق كبيرة من العالم، وعندها قوة خشنة نشهدها في الحرب القائمة في أوكرانيا، أو شاهدناها في مناطق اخرى .
جميعنا شاهد أثناء النقل المباشر لوسائل الاعلام الروسي والعالمي الاجتماع الذي عقده بوتين في 21فبراير/شباط العام الحالي، لمجلس الأمن القومي الروسي. كيف كان الحضور مرتبكًا وغير قادر على الكلام أمام بوتين، وكيف ردّ على وزير المخابرات سيرغي ناريشكين الذي طُلب منه تحديد موقفه الواضح لجهة العملية، فكان الرئيس الروسي يريد فقط أن يسمع ما يريد سماعه من المجتمعين.
لقدكان المبادرون إلى الغزو الروسي الشامل لأوكرانيا هم سكرتير مجلس الأمن في الاتحاد الروسي، نيكولاي باتروشيف، ومدير المخابرات الداخلية، ألكسندر بورتنيكوف، اللذان أقنعا الرئيس فلاديمير بوتين ببدء العملية دون التشاور مع جنرالات الجيش.
المخابرات هي من أقنعت بوتين بالحرب
لقد أقنع سكرتير مجلس الأمن القومي ومدير المخابرات الداخلية بوتين بشن الغزو المسلح على أوكرانيا، وتوافق القادة الروس المطلعون فقط على تاريخ الاستعدادات للغزو مع الرئيس. كان باتروشيف وبورتنيكوف وموظفون آخرون في أجهزة الاستخبارات الروسية واثقين من الحاجة إلى توجيه ضربة "استباقية" لأوكرانيا لإنقاذ روسيا من التهديد الاستراتيجي المتزايد المزعوم من الغرب، وهم المقربون منه بسبب العزلة التي يعيشها بوتين بسبب جائحة كورونا.
قال رئيس الحرس الوطني، فيكتور زولوتوف، في محادثة مع رئيس تحرير محطة " آخا موسكفا" الإذاعية المغلقة حاليًا، الكسي فينديكتوف، الذي أصبح خارج روسيا، إن "أوكرانيا غير موجودة" وبأنها مجرد إقليم والذي تمر على طوله "الحدود بين أمريكا وروسيا".
كما وقد ذكّر وزير الدفاع سيرغي شويغو بين أولئك الذين كانوا يستعدون لغزو أوكرانيا بأن الحرب فيها باتت مصيرية لروسيا . ومع ذلك، ووفقًا للمعلومات الواردة في الصحافة، قام بالمهام الموكلة إليه ولم يكن أيديولوجيًا، وفي نفس الوقت كان مترددًا أحيانًا.
تمت تسمية باتروشيف شخصية رئيسية بحاشية بوتين، فهو "صديق الطفولة للرئيس وزميل المهنة". وتشير المعلومات الاستخباراتية الغربية إلى أن عزلة الرئيس الروسي بعد تفشي جائحة فيروس كورونا كان لها دور هام. لقد ضيقت دائرة الأشخاص الذين استشارهم بوتين، وأصبح أولئك الذين آمنوا بضرورة فرض السيطرة على أوكرانيا من أجل محاربة الغرب الأغلبية فيها. واحد منهم يسمى رجل الأعمال يوري كوفالتشوك.
يُزعم أن القرار النهائي بشأن غزو واسع النطاق لأوكرانيا قد اتخذ بحلول نهاية صيف عام 2021. في الوقت نفسه، كُلف وزير الخارجية سيرغي لافروف بمحاولة الحصول على تنازلات كبيرة من الغرب.
لافروف كان يؤيّد التفاوض
إن لافروف نفسه كان يريد نتيجة سلمية للمواجهة، وكان متأكدًا من أن بوتين يريد ذلك أيضًا. أثبتت مطالب روسيا لما يسمى بالضمانات الأمنية، والتي صاغتها وزارة الخارجية في كانون الاول/ديسمبر الماضي، أنها غير مقبولة من الغرب. في الوقت نفسه، كما تشير التايمز، أساء الدبلوماسيون الغربيون، بمن فيهم البريطانيون، تفسير هذه المطالب. لقد اعتقدوا أن روسيا كانت تتفاوض وتقنع الغرب بضرورة تقديم بعض التنازلات كجزء من حل وسط، بينما كان ذلك بمثابة إنذار.
لكن لابد من القول بأن صحيفة واشنطن بوست في الولايات المتحدة هي أول من اكتشفت خطط بوتين لمهاجمة أوكرانيا في تشرين الاول/أكتوبر عام 2021 . حاولت واشنطن ثنيه عن القيام بذلك.
وفقًا لصحيفة"التايمز" The Times، البريطانية، فإن معظم النخبة الروسية، وحتى أعضاء مجلس الأمن لم يعرفوا قرار بوتين بمهاجمة أوكرانيا حتى 21 فبراير/ شباط . يُزعم أن السكرتير الصحفي لبوتين، دميتري بيسكوف، بعد بدء الغزو الروسي، في محادثة خاصة، وأشار إلى أن معظم أعضاء مجلس الأمن (من بينهم ، على سبيل المثال ، لافروف) تم إخبارهم بالهجوم المرتقب على كييف فقط بعد اجتماع هذه الهيئة، الذي ناقش الاعتراف بما يسمى بجمهورية لوغانسك الشعبية وجمهورية دونيتسك الشعبية.
بالإضافة إلى ذلك، وفقًا لبيسكوف، في نفس اجتماع مجلس الأمن في 21 فبراير/شباط، حيث تم إخبار المشاركين فيه أنه سيتم بث الحدث على الهواء مباشرة. لكن في الواقع، تم عرضه مسجلًا. حيث سُجل خطاب بوتين لبدء ما يسمى بالعملية الخاصة في 23 فبراير/شباط، بحسب المنشور. في اليوم التالي، في الصباح الباكر، بدأ غزو واسع النطاق لأوكرانيا.
الخلاف بين المخابرات والجنرالات
كانت روسيا تعتمد على إستراتيجية الأرض الرخوة التي تمكنها من السيطرة سريعًا على أراضي جديدة تستخدمها في حربها الجيوسياسية كما العادة، إن التوجهات الروسية اعتمدت في إوكرانيا هي ذاتها خطط الناتو في يوغسلافيا السابقة القيام بضرب كل البنى التحتية للجيش الأوكراني ومحاصرة العاصمة واسقاطها واستسلام الجيش.
لكن بعد تعذّر الخطة وفشلها، حاولت ارسال رسائل مباشرة للشعب الأوكراني تعتمد على القتل والمجازر والاقتصاد والهدف كما حصل في المدن شرق كييف "بوشا وغستوميل وأربين وإيزيوم " اثناء العملية العسكرية الروسية، ولكن الفشل بالتخطيط وغياب الاستراتيجية أخرجا روسيا من كييف وضواحيها معللة ذلك بأنها تفتح المجال أمام الحوار وأنها متجهة نحو الدونباس، وبالتالي فالفشل والنكسات الروسية في الحرب الأوكرانية باتت تبررها موسكو بانسحابات تكتيكية لإفساح المجال أمام الحوار مع أوكرانيا.
لابد من القول بأن الخلاف حاصل بين الجنرالات في هيئة الاركان الذين نصحوا بوتين بعدم الحرب. فالمشكلة باتت بين المخابرات وتقاريرها الوهمية وهيئة التصنيع العسكري المشجعة والجاهزة للحرب وحلفاء بوتين الجدد من جهة، وبين الجيش وجنرالاته من جهة ثانية، مما ترك آثاره الواضحة على الانهيارات، وعدم تحقيق أهداف العملية التي باتت بوجه بوتين وسمعته المقبلة.