كتب صهيب جوهر في جسور:
تتزايد يوميًا تصريحات المسؤولين الأتراك بشأن إمكانية حصول تقارب مع النظام السوري، وشكَّلت تصريحات وزير الخارجية مولود جاويش أوغلو، في ملتقى السفراء الأتراك في أنقرة مطلع آب/أغسطس المنصرم، دليلًا واضحًا على استعداد حكومة العدالة والتنمية لإعادة النظر في علاقتها السياسية مع النظام السوري، فيما كان تصريح الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، أثناء عودته من اجتماع في سوتشي مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في منذ شهرين بأن أجهزة استخبارات تركية وسورية تتواصل بخصوص مكافحة الإرهاب، فيما كانت زيارة هاكان فيدان رئيس الاستخبارات التركية لدمشق ولقاءه نظيره السوري علي مملوك موضع نقاش بين إقليمي وعربي حيال مآلات هذه المحادثات.
وتعبر التصريحات التركية هذه عن تغيّر واضح في موقف حكومة أنقرة التي كانت منذ عام 2011، الداعم الرئيس للمعارضة السورية، وفي حالة تناقض تام مع السياستين الروسية والإيرانية التي دعمت نظام الأسد، ومع هذا التطور المتسارع بين الجانبين والتي تحرص أنقرة على إشراك موسكو به بدون تدخّل إيراني حتى اللحظة، فإن البعض يعود للسؤال عن مصير وجود وحضور المعارضة السورية، كما يسعى البعض للربط بين مسألة الطلب مستقبلاً من قوى المعارضة السورية بمغادرة تركيا وتجميد نشاطاتها، وبين ما حدث مع قيادات الإخوان المسلمين في مصر وإعلامهم في إسطنبول.
والنظرة التركية للملف السوري وتحدياته السياسية والأمنية والاجتماعية والتحديات المرتبطة بالقلق الانتخابي لدى الحزب الحاكم ينفصل تمامًا عن الملف مع مصر، فأنقرة في حوارها المرتقب مع نظام الأسد ستبحث مسائل أبرزها ضرورة إبقاء سوريا موحدة تحت سلطة سياسية وإدارية واحدة، وضرب مشروع التواجد الكردي المدعوم اميركيًا عبر تأسيس حكم ذاتي كمقدمة لدولة كونفدرالية سورية، ووضع خطط واضحة ومحددة في مسائل عودة ملايين السوريين المتواجدين في تركيا والدول المحيطة لإعادة ترتيب المشهد الديمغرافي داخل الجغرافيا السورية، كذلك تبرز الرغبة التركية بإقصاء الميليشيات الإيرانية التي وصلت إلى مناطق الحدود التركية قادمة من لبنان والعراق وفتح الطريق أمام التسوية السياسية الحقيقية في سوريا.
في الوقت نفسه، بدأت تتزايد التحديات الاقتصادية بالنسبة إلى تركيا التي لحق بها، مثل كثير من دول العالم، أضرار اقتصاديّة بالغة بسبب تفشي وباء فيروس كورونا الذي وجّه ضربة كبيرة لقطاع السياحة التركي خلال عام 2020، وأدى إلى شلّ قطاعات واسعة من الاقتصاد نتيجة الإغلاق. وقد انعكس توتر العلاقة مع واشنطن وتنامي الصعوبات الاقتصادية سلبيًا في سعر صرف العملة التركية التي خسرت نحو 90 في المئة من قيمتها بين أعوام 2016 و2022، فضلًا عن تنامي العجز في الميزان التجاري وارتفاع مستويات التضخم الذي فاقمه الصراع بين روسيا وأوكرانيا، حيث تضاعفت أسعار الطاقة في بلد يعتمد اقتصاده اعتمادًا كليًّا على استيراد الطاقة حيث وصل التضخم إلى نسبة قياسية بلغت نحو 80 في المئة.
وهذه التحديات السياسية والاقتصادية والأمنية دفعت الحزب الحكم والرئيس التركي إلى إجراء تغييرات واسعة في سياسته الخارجية، شملت تحسين العلاقات مع السعودية، والإمارات، وإسرائيل، ومصر، وغيرها، كأننا إزاء عودة إلى تفعيل سياسة "صفر مشاكل" التي تبنَّتها تركيا مع وصول حزب العدالة والتنمية إلى السلطة في 2002.
وإذا كانت هناك عوامل مختلفة دفعت أنقرة إلى تغيير كامل لمقاربتها الإقليمية، فقد كان للعلاقة مع سوريا خصوصية إضافية واضحة ممثلة بصراع مرير مع النظام السوري نتج عنه وجود نحو 3.7 ملايين لاجئ سوري في تركيا.
وتستعد حكومة العدالة والتنمية لانتخابات مصيرية بعد أقل من 10 اشهر في ظل منافسة حامية مع معارضة شبه موحدة وسخط شعبي متزايد، لذا فإن الملف السوري يتصدر الأولويات في حسم نتائج الانتخابات، لكن هذا التواصل والتقارب لن يدفع الأتراك والقطريين في تحسين صورة الأسد وذلك ربطًا بمواقف أمير قطر في الأمم المتحدة والرئيس التركي في قمة شنغهاي والتي عبّرا فيها عن انتقادات لاذعة لشخص الأسد.
بالإضافة لسقوط القدرة الجزائرية على إعادة حضور سوريا اجتماعات القمة العربية المرتقبة. هناك تطورات ومعادلات سياسية وأمنية ولعبة توازنات جديدة نشأت في سوريا، ومن يتحدث نيابة عن النظام هي موسكو لذا فإن الجانب التركي حريص على حسم الملفات مع بوتين والذي يحتاج لتركيا في ملفات أخرى أهمها أوكرانيا، رغم الاقتناع التركي بمراعاة حصص الأطراف الأخرى وتحديداً واشنطن وتل ابيب وطهران ودول الخليج.
وعليه ومع انتظار إنتهاء أنقرة من رسم المرحلة الثالثة لسياساتها الخارجية منذ 2002 وبناء تحالفاتها الإقليمية عربيًا واسرائيليًا واستثمار الحاجة الروسية لها كوسيط والضغط على واشنطن ودول الغرب في ملفات حساسة قد يؤدي لإعطاء تركيا ما تريد، والضغط الغربي على إيران المنشغلة بالاتفاق النووي، قد نشهد تطوّرات وتقدم في علاقة الطرفين لكن دون انعقاد قمة رئاسية حتى لو كان هناك الكثير من الأسباب والدوافع التي تبرّر للحزب الحاكم التطبيع مع الأسد، إلا أن تكلفة خطوات من هذا القبيل سيؤثر على جمهور الحزب نفسه سياسيًا وشعبيًا، ما يعني أن الخسائر بالاندماج مع النظام قد تكون أعلى من أرباح التواصل معه، لكن فالانتخابات التركية المقبلة هي من ستحدد استمرار التطبيع أم لا وهل سيجلس حزب العدالة والتنمية مجدداً على طاولة الحوار مع دمشق أم أن المعارضة ستحظى بهذا الدور؟
في النهاية فإن الأساس هو في التحديات الكبرى التي تواجه إمكانية حصول تقارب بين أنقرة ودمشق، أهمها ارتباطها بإيجاد حل سياسي عادل للأزمة السورية التي لا يمكن اختصارها بطبيعة العلاقة بين تركيا والنظام السوري، بالنظر إلى الأثمان الكبيرة التي قدمها الشعب السوري في ثورته على حكم البعث، وغياب مقاربة شاملة للحل مع تفاقم التوتر في العلاقة بين موسكو وواشنطن نتيجة الصراع في أوكرانيا واحتدام التنافس الجيوسياسي بين القوى الكبرى في النظام الدولي.
وللحديث صلة!