يبدو أنّ دول القرار قد أدخلت لبنان زمن التسويات الدوليّة تحقيقًا لمصالحها بدءًا بملف ترسيم الحدود البحريّة. ولا يستطيع أحد التكهّن على ما قد يقدم عليه هذا المجتمع في حين أنّ القرارات الدّوليّة التي تعنى بالقضيّة اللبنانيّة، من القرار 1559 و 1680 و1701 و 2650 الكفيلة منفردة بحلّها باتت بحكم المؤجّلة كي لا نقول الساقطة.
وهذا كلّه فُرِضَ نتيجة متغيّراتٍ دوليّة بدأت بالحرب الأوكرانيّة الروسيّة وامتدّت حتّى الاحتجاجات الأخيرة في الجمهوريّة الإسلاميّة في إيران، ولن تنتهي بالتغييرات التي فرضها انسحاب زعيم التيار الصدري من الحياة السياسيّة في العراق، ما سمح للإطار التنسيقي الموالي لإيران بإحكام قبضته دستوريًّا من خلال رئاستي الجمهوريّة والحكومة.
وبدت لافتة في الساحة اللبنانيّة الدعوة التي وجّهتها السفارة السويسريّة إلى عشاء مساء الثلاثاء، تمهيدًا لمؤتمر حواري لحلّ القضيّة اللبنانيّة قد يعقد في جنيف الشهر المقبل، كما سُرِّبَ في الاعلام. وما إن انتشرَت هذه الدعوة حتّى تمّ ربط المؤتمر بعناوين سياسية طائفية، من بوابة تغيير النظام القائم، مع حلّ للملفّ الرئاسي بتسوية عامّة.
طبيعة الدعوة السويسريّة لجسّ النبض
وفي هذا السياق، قال مصدر نيابي معني وجّهت له الدعوة للمشاركة في العشاء لـ"جسور عربيّة" إنّ هذا الموضوع "خرج عن إطاره الحقيقي وصار ملتبسًا عند الرأي العام اللبناني والدّولي على السواء." وعن طبيعة النقاش الذي دار، يلفت هذا المصدر إلى أنه "لا علاقة له بالطائف ولا بأيّ شيء آخر. وأيّ نقاش من هذا النوع في الوقت الحاضر غير مقبول، لأنّه ليس في وقته اليوم.
ومتى أتى في اللحظة المناسبة ومع الأشخاص المعنيّين عندها يصبح مقبولاً." وفيما يتعلّق بالإشارة إلى الطائف كميثاق، فيؤكّد هذا المصدر أنّه"ميثاق للبنانيين للعيش معًا."
أمّا الأستاذ رغيد الشمّاع، رئيس المعهد الدولي للحوكمة في جنيف (HELVET'S) - ISGG.ch والسفير السابق لدى منظمة الأمم المتحدة والمنظمات الدولية في جنيف، فيلفت لموقع جسور أنّ "جذور الأزمة التي يعانيها لبنان اليوم هي بسبب الاتفاق الذي تمّ في الطائف والذي يؤكّد ضرورة الانتقال الدستوري نحو دولة مدنية وهو ما لم يحصل."
فبالنسبة إليه "هذا الاتفاق جعل من لبنان رسالة للبشرية كما أورده الحبر الأعظم. فأي مساس بالمناصفة التي نصّ عليها، إنّما هو مساس بالرسالة التي تحدّث عنها قداسة البابا، سيّما وأنّ ذلك لا يتناقض مع الطموح المعلن لتطوّر عملي في الذهنية والعقلية والتنشئة والتربية والمواطنية الصالحة التي تؤسس للدولة المدنية المنشودة."
ويكمل الشمّاع حديثه لموقع جسور حول طبيعة المبادرة السويسريّة فيلفت إلى أنّ "سقوط الحديث عن المناصفة والمثالثة في لبنان يكون تلقائيًا أيّاً كانت مفاعيل القنبلة الديمغرافية، وذلك عند انتقال المجتمع اللبناني الى الدولة المدنية" .
تفكيك اللغم السويسري
وفي حديثه لجسور، يضع المصدر النيابي ما حدث في إطار "العصف الذّهني الذي تقيمه السفارة السويسريّة مع منظمة "هيومن ديالوغ السويسرية" ، وهي تعنى بحلّ النزاعات، وقد وجهت دعوات لقوى وشخصيات سياسية وناشطة لحضور عشاء من تنظيمها في مقرّ السفارة السويسرية، وشملت قوى السلطة والمعارضة والتغييريين."
أمّا الشمّاع فيكشف موجبات هذه الدعوة السويسريّة، حيث يرى أنه "لا أحد يعلم ما ورائيّات المبادرة السويسرية المفاجئة بالشكل لجهة توجيه الدعوة الى مجموعة من الفعاليات بصورة غير لائقة من جهة، وبالمضمون لجهة البحث في موضوع المثالثة الذي صدم الجميع " ويركّز الشمّاع في حديثه لجسور على الموضوع الميثاقي. فبالنسبة إليه من حيث الشكل "قائمة المدعوّين التي سُرِّبَت لم تراعِ الأصول الميثاقيّة حيث إنّ المسيحيين منهم كانوا أقلية." أمّا من حيث المضمون فيعيد فشل هذه الدعوة إلى"أنّ طرح المثالثة هو عنوان تفجيري".
ويثني الشمّاع على تغريدة السفير السّعودي في لبنان التي بحدّ قوله "أكّدت الثوابت التي تألقت بها المملكة العربية السعودية منذ عقود لتضع النقاط على الحروف والنقطة على السطر." ما يوحي بأنّ تفكيك اللغم السويسري جاء من المهندس الإقليمي للقضيّة اللبنانيّة."
مع الإشارة في بداية الأمر إلى أنّ بعض الموافقات المبدئية قد أتت، باعتبار ألا أهداف وراء الدعوة، التي قد تتضمن نقاشًا سياسيًا طبيعيًا، لا مؤتمرًا حواريًا أو تأسيسيًا، كما أشيع وضجّت بسيناريوهاته وسائل الأعلام، ولكن بعد البلبلة التي حصلت، عاد كثيرون عن قرارهم واختاروا الاعتذار.
وإزاء المواقف التي ارتفعت حدّتها بوجه السفارة السويسرية، أوضحت ببيان، أعلنت فيه "تأجيل العشاء غير الرسمي إلى موعدٍ لاحقٍ"، وأكّدت أن "الأسماء المتداولة في الاعلام لا تشمل أسماء المدعوين فعليًا، وأن الهدف منه كان تعزيز تبادل الأفكار بين مختلف الجهات الفاعلة السياسية اللبنانية".
مكامن الخلل
ويشرح الشمّاع وجهة نظره التي أدّت بحسب ما قال لجسور إلى انهيار الدّولة اللبنانية على يد"المافيا الحاكمة التي سرقت قرار الشعب وشوّهت العمل المؤسساتي بما يسمى الميثاقية، ثمّ أقحمته بممارسة مخالفة للديمقراطيّة التي هي بالأساس ديكتاتورية الأكثرية."
ويكمل الشمّاع مستذكرًا كيف أدخلوا على المبدأ الديمقراطي "الديمقراطيّة التوافقية، والوزير الملك، والثلث المعطّل إضافة الى اليوم الكلام عن المثالثة، وعن تعميد الوزارات باسم المذاهب، وليس باسم الكفاءات، وبالخروج عن النصوص، وبتأويل صلاحيات رئيس الجمهورية، وبالاعتداء على المؤسسات الدستورية، وبالاستيلاء على التكليف برئاسة الحكومة دون مهل لتشكيلها، ودون إمكانية إلغاء التكليف أو حتّى إعفاء الرئيس المكلّف أو إقالته من خلال العودة الى مجلس النواب."
ويوضح الشمّاع كونه خبير في الحوكمة والإدارة الرشيدة للمؤسّسات، أنّ هذا التعطيل المؤسّساتي قد "كلفنا تقريبًا تريليون دولار، وهذا ما سنشعر به خلال السنوات العشر المقبلة."
ويؤكّد الشمّاع ضرورة "محاسبة الفاعلين أيًّا كانت مناصبهم وأيًا كان شأنهم. فلقد كلّفوا الوطن بأسره سنة من دون تكليف وتشكيل، ناهيك عن استفراد رئيس مجلس النواب بتأويل القانون وبإلغاء دور المجلس الدستوري عندما قال: "إن مجلس النواب سيّد نفسه".
شروط تغيير النظام
ويرى الشمّاع أنّ "أي مساس بالمناصفة المسيحية الاسلامية مرفوض رفضًا تامًا وأي تسوية لا تشرئبّ أصولها و جذورها من اتفاقية الوفاق الوطني مرفوضة جملة وتفصيلاً، على أن يختصر العمل على إدخال تعديلات وتطويرات لما جاء في الاتفاقية الأساس وأيّ شيء خارج هذا الإطار مرفوض. "فبالنسبة إليه" وثيقة الوفاق الوطني كان لها أن تترجم عمليًا بتحوّل الدولة والمؤسسات الى منظومة دولة مدنية وهذا ما لم يحصل."
أمّا المصدر النيابي فيكمل حديثه لجسور في سياق عمليّة تغيير النظام اللبناني قائلاً" حتّى إذا أردنا الحديث عن تغيير هذا النظام فالحديث يكون تحت هذا الميثاق، أي الطائف. قد نعيش بشكل مختلف بعضنا مع بعض، لكن من المؤكّد أنّنا سنعيش معًا. فهذا التنوّع القائم بحاجة إلى عمليّة تحسين لإدارته، وهذا ما يمكن نقاشه، ولكن ليس في هذا المكان، ولا حتّى في هذا التوقيت بالذات، أو حتّى بهذا الشكل."
ما المطلوب ؟
ويختم الشمّاع حديثه مطالبًا ب"دعم القوى العظمى والراعية لإرساء برنامج زمني بنيوي يجهّز انتقال المجتمع اللبناني الى الدولة المدنية وتطبيق ما لحظته اتفاقية الطائف من بنود واصلاحات لم يؤخذ بها." فالطائف هو الوفاق الوطني الذي حلّ مكان الميثاق، وهو شكّل أوّل دعوة لتشكيل هيئة لإلغاء الطائفيّة السياسيّة. فهذا معناه جعل لبنان وطنًا للمواطنين جميعهم.
يبقى أنّ العمل الرئيسي ملقًى على عاتق اللبنانيين أنفسهم، إن لم ينجحوا بتأسيس جبهة لبنانيّة كيانيّة أُسُسها السيادة والحرّيّة والاستقلال والحوكمة لن يتمكّنوا من مواجهة سلطة إيران في لبنان التي تمثّلها منظمة حزب الله وعملائها. فهل تستطيع هذه السلطة تقديم أغلى الأضاحي شرط أن تحافظ على وجوديّتها؟ أم أن زمن الأضاحي ولّى وحان وقت القطاف؟