كتب صهيب جوهر في جسور:
إستضافة دولة قطر لمونديال كأس العالم يُشكل إنجازاً تاريخياً غير مسبوق على المستوى العربي، إذ هذه هي المرة الأولى التي تتمكن فيها دولة عربية من استضافة هذا الحدث الذي يشهده العالم مرة كل أربع سنوات، منذ أكثر من تسعين عاماً، يستقطب اهتمام مئات الملايين من البشر في كل مرة، هذا في الشكل أما المضمون فهناك الكثير مما يقال عن التحديات السياسية والاقتصادية والضغوطات التي تعرضت لها الدوحة للوصول إلى هذا اليوم التاريخي.
والأكثر أهمية هو مكانتها كأكبر مصدر للغاز. ففي عالم يتسم فيه التحكم في الإمداد العالمي بالطاقة بأهمية إستراتيجية متزايدة، يمثل الغاز القطري بديلا مهما يحرم روسيا من إحدى أعظم مزاياها على الغرب. حيث كان اعتماد أوروبا على الغاز الروسي نقطة ضعف، إذ عاقبت الدول الأوروبية روسيا بسبب غزوها لأوكرانيا، وردا على ذلك، قامت موسكو بتقييد إمدادات الطاقة إلى الغرب ما شكل مخاطرة أوروبية بأزمة طاقة هذا الشتاء اعتراضًا على أفعال روسيا القاتلة.
وما زاد الطين بلة أن منظمة أوبك، وعدت بخفض إنتاج النفط بمقدار مليوني برميل يوميا، كما أن التخريب الأخير لأنابيب الغاز الطبيعي "نورد ستريم" بين روسيا وأوروبا زاد من تفاقم الموقف غير المستقر للغرب.
ولكن المثير للريبة هي تلك الحملات الأوروبية المفاجئة التي تعرضت للشق الإنساني لبناء قطر الحديثة والضحايا المتوقعين للصول لهذا اليوم، لكن الأصل أن الغربيون لم يتعودوا الى هذا اليوم أن يواجهوا حقيقة دورهم في المأساة العربية التي ساهموا بها، لكنهم بارعون في ممارسة الفوقية والعنصرية على العرب كما تفعل الحملة الممنهجة ضد قطر. ولقد امتلك رئيس الفيفا جياني إنفانتينو الجرأة بشكل مثير للإعجاب عندما هاجم بشدة منتقدي مونديال قطر واتهم الدول الأوروبية بالنفاق وقال إنهم ليسوا في وضع يسمح لهم بتقديم دروس أخلاقية لقطر والعرب.
كذلك فإن حفل الانطلاق الذي حضره قادة العالم لم يعكس سوى جانب من المكانة الإقليمية والدولية لدولة قطر، وهذه المكانة التي تحظى بها الامارة الخليجية جرى ترجمتها في العديد من الملفات مؤخراً حيث كان بالإمكان ملاحظة هذه المكانة بوضوح بعيداً من العرض الاحتفالي وهي:
أولاً: ترتيب الأمير الشيخ تميم بن حمد آل ثاني للمصافحة التاريخية بين الرئيسين التركي رجب طيب أردوغان والمصري عبد الفتاح السيسي، على هامش مشاركتهما في الحفل، حيث كانت المصافحة مفاجئة وغير متوقعة للعديد من الأطراف الفاعلة اقليمياً، وحتى لأكثر العاملين على خط رأب الصدع بين أنقرة والقاهرة، وهي تأتي عقب فشل المحادثات الاستكشافية بين الجانبين، بسبب تجدّد الخلافات بينهما في الملف الليبي وشرق المتوسط.
وهذه المصافحة تأتي بعد أيامٍ قليلة فقط من حديث أردوغان عن إمكانية إصلاح العلاقات بعد الانتخابات التركية حزيران المقبل، وهو ما اعتبرته الأوساط الفاعلة أنه عملية تجميد للملف ربطاً بنتائج الانتخابات المقبلة. في حين أن الظروف المباشرة والمحيطة بالمسار التركي- المصري لا تزال غير ملائمة حالياً لتحقيق خرق جوهري في الأزمة، فتحت دبلوماسية الكرة آفاقاً جديدة لم تكن محسوبة.
لكن الأكيد ان لقاءً جرى بين مديري المخابرات التركي والمصري على جوانب الصخب الكروي في استاد البيت، فيما الجهود الدبلوماسية المتجسدة بأداء سامح شكري قد تتبدد في أول تغيير حكومي مصري مرتقب، وتصريحات أردوغان لدى عودته من قطر توحي أن الطرفين قد توافقا برعاية القطريين على خطوات واضحة وسريعة لتطوير العلاقات بينهما، ولذلك قد نشهد قريباً لقاءً يجمع بين وزيري خارجية البلدين، بل وتبادل السفراء، وهي الخطوات التي تأخرت كثيراً وباتت ممكنة بعد لقاء الرئيسين.
ثانياً: وعلى صعيد الهدنة اليمنية والتي كادت أن تنفجر مطلع الشهر المنصرم لولا جهود بذلتها الدوحة مع الإيرانيين والحوثيين وحزب الله من جهة وبين السعوديين من جهة أخرى لتمديد الهدنة حتى نهاية العام الحالي انطلاقاً من تأثير أي انفجار إقليمي وتحديداً في الخليج على سير كأس العالم وترتيباته الأمنية والسياسية وقدرة الوافدين الى هذا الحدث الكروي الكبير من استخدام مطارات واجواء خليجية قد تصبح للحظة محطاً للصواريخ والمسيرات، ما يعني بطبيعة الحال أن كل التهم التي كالتها دول عربية لقطر عن طبيعة علاقتها مع ايران باتت اليوم حاجة إقليمية لتسهيل كل ظروف إرساء الاستقرار الإقليمي والتي كانت فقط جهتان تلعبهما في خلال المرحلة الماضية قطر ورئيس الوزراء العراقي السابق مصطفى الكاظمي.
ثالثاً: وبالتوازي فإن الجانب الإيراني واستتباعاً لنكسته في نتائج الانتخابات النصفية الأميركية، وحيث أن طهران لم تكن مسرورة بالنتائج التي أفضت إليها الانتخابات النصفية، وهي وفقاً لسياسة الاستفادة من ثغرات الأزمات الداخلية للدول كانت تفضل فالوضع الأفضل لديها كان بتأن تتصاعد الفوضى السياسية داخل الولايات المتحدة الاميركية، وهو ما كان قابلاً للحصول لو حقق ترامب نقاطاً لصالحه.
لذا وجدت ايران نفسها امام القبول بالسيناريو المتوقع، لذا فهي تتجه للقبول بصيغ الحوار مع الدول الكبرى لأنها باتت اكثر ميولاً لفك حبل الحصار الاقتصادي عنها، ورفع العقوبات، بعدما ظهر بوضوح أنّ الشارع الايراني تعب نتيجة الحراك الشعبي القائم.
وعليه وبحسب ما بات يُعرف في الأوساط الدبلوماسية فإن الجانب الإيراني أرسل للجانب الأميركي عبر وزير الخارجية القطري محمد بن عبد الرحمن آل ثاني، رسائل واضحة تشير الى جاهزية لعقد اجتماعات استكمال للمفاوضات النووية حيث سارع آل ثاني لنقلها لوكالة الأمن القومي الأميركي، وعليه فإن الظروف باتت جاهزة لعقد المحادثات في الدوحة منتصف الشهر المقبل، في ظل الاتهام الإيراني الواضح للجانب الأميركي واستخباراته بدعم الاحتجاجات والتظاهرات القائمة في مختلف المناطق الايرانية وهذا الأمر تقرأه ايران أنه مسعى غربي وأميركي واضح لفرض عودتها إلى الاتفاق النّوويّ بلا شروطٍ مُسبقة.
وهذا النقاش الكبير سيكون أحد بنود زيارة وزير الخارجية الأميركي أنطوني بلينكن الى الدوحة ضمن مناسبة افتتاح الحوار الاستراتيجي القطري الأميركي الخامس ولقاءاته مع مسؤولين قطريين على رأسهم الأمير ووزير خارجيته.
رابعاً: يبدو الحضور القطري لبنانياً في حالة تزايد وتسارع، واذا ما كانت قطر بإعتراف الأطراف اللبنانية والأميركية والإسرائيلية سهلت اتفاق ترسيم الحدود البحرية بين بيروت وتل أبيب، فإنها تستكمل هذا المسار اللبناني بالحضور بالتنقيب بحصة الشركة الروسية جنوباً، والسعي للمشاركة شمالاً، إضافة لدورها المتزايد بدعم الجيش ومؤسسات الدولة اللبنانية والسعي مع السعودية وواشنطن بطرح صيغ توافقية للملف الرئاسي قد يتوج وصول قائد الجيش جوزيف عون لسدة الرئاسة اللبنانية.
بالمحصلة، ما تمتلكه الدوحة ليست جغرافيا واسعة في وسط العالم، وليس تاريخا سياسيا لقرون خلت، بل قدرة عالية لتوظيف الثروة والطاقة بأدوار كبيرة تفوق حجمها الجغرافي، انطلاقاً من تحالفها المتين مع واشنطن وتلازم بعض مساراتها مع روسيا والتكامل الإقليمي مع تركيا وحسن فهمها لطبيعة ايران وأدوارها التوسعية.