من يقرأ الدستور اللبناني يحسد الشعبَ على دولته. يُخيَّل إليه أنّ المواطنين غيرَ القادرين على تأمين أبسط مقوّمات الحياة الطبيعيّة، يعيشون في وطنٍ حرّ مستقلّ يحرص مسؤولوه على مستقبل شعبهم. من يقرأ الدستور اللبناني يتوهّم أنّه على بقعة الـ10452 كم2 تفرض الدولةُ سيادتَها على مختلف القرى والمدن حيث الجميع تحت سقف القانون.
بين الدستور والواقع
لو طُبِّقَت مقدّمةُ الدّستور لكان لبنان من أكثر الدول تقدّمًا. تتألّف المقدّمة من عشر نقاط، تؤكّد أنّ لبنان وطنٌ سيّدٌ حرٌّ مستقل، ملتزمٌ ببنود الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في مختلف المجالات من دون استثناء، يعمل على تحقيق الإنماء المتوازن للمناطق ثقافيًّا واجتماعيًّا واقتصاديًّا، يهدف بكلّ قواه إلى إلغاء الطائفيّة السياسيّة وفق خطّة مرحليّة، يحفظ لكلّ مواطن الحقَّ في الإقامة في أي منطقة باعتبار أن لا فرز للشعب على أساس أيّ انتماء كان وأن لا شرعيّة لأيّ سلطة تناقض ميثاق العيش المشترك.
أمّا على أرض الواقع، فالعكس كثيرًا ما يكون صحيحًا.
لبنان كان يومًا قادرًا على فرض شروطه، وهنا تعيدنا ذاكرةُ الأرشيف إلى عام 1958 حين شكّلت وحدةُ سوريا ومصر ما عُرف بالجمهورية العربية المتّحدة. آنذاك طلب الرئيس المصري جمال عبد الناصر أن يلتقي الرئيسَ اللبنانيّ فؤاد شهاب. إلّا أنّ شهاب ردّ يومها: "أنا لا أذهب عند أحد" ونصب خيمة عند الحدود اللبنانيّة السوريّة، جلس شهاب في الجانب اللبناني وعبد الناصر في الجانب السوري.
أمّا لبنان اليوم فأصبح وطنًا يجتمع ساسته على موائد رؤساء الخارج وسفرائه وينتظرون إشارة من هنا وهناك، يتلقّون التعليمات اللّازمة وغير اللّازمة، يتّكلون على الخارج لوضع خطّة يُقال إنّها إنقاذيّة. وذلك على غرار ما حصل مثلًا مع زيارات الرّئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى لبنان عقب انفجار مرفأ بيروت في آب/أغسطس 2020. والأمثلة الأخرى كثيرةٌ مدوّنةٌ في ذاكرة الأرشيف، ما جعل عبارة "وطن حر ومستقل" حبرًا على ورق.
يشدّد الدستور في مواده على ضرورة احترام المواعيد الدستوريّة، فتنص المادّة 83 أنّه وفي تشرين الأوّل/أكتوبر تقدّم الحكومة إلى مجلس النوّاب موازنة شاملة لنفقات الدّولة ودخلها عن السنة المقبلة. لكن تخيّلوا أنّ موازمة 2022 تأخّر إقرارُها عامًا كاملًا إذ أُقرَّت في 26 أيلول الحالي من دون مراعاة أوضاع الناس المعيشيّة في ظلّ إحدى أسوأ أزمات لبنان الاقتصاديّة.
تطبيق الدستور حسب المصلحة
صحيح أنّ الدستور لا يخلو من تناقضات بارزة أبرزها مسألة الفصل بين السلطات التي تركّز عليها مقدّمة الدستور لتعود المادة 28 لتجيز الجمع بين النيابة والوزارة فيصبح النائبُ وزيرًا وقادرًا على مراقبة نفسه ما يُشكّل خللًا في انتظام العمل المؤسّساتي. وطبعًا المسؤولون لم يتردّدوا في الاستفادة من هذا التناقض، فقرّر بعضهم تولّي هذين المنصبين في الوقت نفسه.
تعدّدت إيجابيّات الدستور لكنّها لم تُطبّق، فيما بعضُ سلبيّاته لم يوفّر المسؤولون فرصة إلّا وطبّقوها. ينص الدستور على وجوب محاكمة الرؤساء والوزراء أمام المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء، فلم يتأخّر السياسيّون في التمسّك بهذه المادّة ورفضوا المثول أمام المحقق العدلي في قضيّة الرّابع من آب/أغسطس.
يكفل الدستور حقّ الطوائف في إنشاء مدارسهم الخاصّة، فاستفادت بعضُ الطوائف من هذا الحق وحوّلت مدارسها إلى جمهوريّة قائمة بحد ذاتها، يُطلَب من التلامذة فيها رفعُ أعلام غير لبنان وتأدية نشيد وطنيّ غير لبنانيّ. هذا ليس اتّهامًا أو مبالغة، بل أحداث متكرّرة لعلّ آخرها فيديوهات من داخل مدارس تابعة لحزب الله تُرفع فيها أعلامٌ إيرانيّةٌ وتُدرّس فيها مواد "تُقدّس" شخصيّات سياسيّة إيرانيّة كالجنرال الرّاحل قاسم سليماني.
في مفهوم الدّولة، لا سلطة تعلو على سلطة الدستور وكلُّ الإجراءات داخل البلاد تستمد شرعيتها منه. ولكن في مفهوم اللّا دولة، يُصبح الدستور حبرًا غيرَ مرئي، ومبادئ غيرَ مطبّقة. عندها فقط يصبح الدستور كلامًا جميلًا يُقرأ، فيما معاناة الناس عبارةٌ عن واقعٍ أليمٍ يُعاش.