أتت زيارة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى الجزائر الشهر الماضي في محاولة لتنقية الذاكرة الجزائرية نتيجة للإستعمار الفرنسي، إضافة إلى أنها محاولة من الرئيس الفرنسي لمعالجة قضايا عالقة بين البلدين كالهجرة غير الشرعيّة والتعاون الاقتصادي بين البلدين. ولعلّ أبرز ما رشح عن هذه الزيارة هو إنشاء لجنة مؤرخين مشتركة بشأن الاستعمار وحرب الاستقلال.
وقال ماكرون، في مؤتمر صحافي مشترك مع نظيره الجزائري عبد المجيد تبون، إن هذا الماضي الأليم "منعنا أحيانًا من المضي قدمًا، وأضاف أنّ "ما يهمّنا هو بناء المستقبل المشترك لبلدينا". وتابع الرئيس الفرنسي: "لا يمكننا التخلص من هذا التاريخ لأنه يتعلق بحياتنا وماضينا، ولكن إرادتنا والحوارات المتواصلة التي أجريناها مع بعضنا بعضا جعلتنا نعتقد أننا نعيش لحظة فريدة آمل أن تسمح لنا بالعمل على أن يكون هذا الماضي مشتركا وليس عاملا معيقا".
يقول محيط الرئيس الفرنسي بعد زيارة الجزائر إنها زيارة موجهة للشباب، وتهدف إلى تجاوز القطيعة والتوتر اللذين سادا بين البلدين منذ نحو سنة بسبب قضايا خلافية بين البلدين، مثل ملف الذاكرة المرتبط بفترة الاستعمار الفرنسي للجزائر (1830-1962)، وغيرها.
وممّا قاله الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون: " إن النقاشات البناءة والصريحة مع الرئيس الفرنسي، التي شملت قضايا الذاكرة والتعاون الاقتصادي والدبلوماسي تنم عن مدى خصوصية العلاقات بين البلدين وتمكّن من رسم آفاق واعدة لها من خلال خطوات مدروسة وجدول زمني".
وتجدر الإشارة إلى أنّه اتفق مع الرئيس الفرنسي على "ترسيخ شراكة استثنائية وفق مبادئ الاحترام وتبادل المصالح".
تهدئة العلاقات لخلفيّة استراتيجيّة
ويلفت في هذا السياق لـ”جسور” الدكتور إبراهيم الهدبان، أستاذ العلوم السياسية في جامعة الكويت بأنّ "الرئيس الفرنسي يحاول بأقصى جهد إبقاء العلاقة الخاّصة بين فرنسا والجزائر مستمرة من دون حصول تشنجات كتلك التي تسبب بها ملف التجارب النووية التي أجرتها فرنسا في الجزائر، وملف التعويضات والاعتذار والاعتراف بالمسؤولية عنها."
مع الإشارة إلى أنّ الجزائر تعتبر من أكبر مصدري الغاز الافريقي إلى أوروبا وتحديدًا الى إيطاليا. وبرغم إنكار ماكرون أن هدف زيارته هو طلب الغاز الجزائري، إلّا أنّ هذه المسألة لم تبقَ بعيدةً من الانتقادات الفرنسيّة والجزائريّة على السواء.
ويرى الهدبان بأنّ ماكرون في زيارته هذه " يحاول أن يتسيد المشهد الأوروبي بعد ميركل. كما أنّه يحاول إثبات أنّ الغاز الجزائري يمكن أن يمرّ عن طريقه بعد أن حصل تقارب إيطالي جزائري، لكن باعتقادي أنه من الصعب عليه إعادة الدفء إلى العلاقات الجزائرية الفرنسية."
أمّا الصحافي والباحث الفرنسي ليو نيكوليان فيرى بأنّ الرئيس ماكرون قد تلقّى صفعة بزيارته إلى الجزائر حيث " تمّت إهانته من قبل عدد كبير من المتظاهرين الجزائريّين على خلفيّة نتائج استعمار الفرنسيّين للجزائر، لكن كاميرا الإليزيه وفريقه الإعلامي أظهراه ضاحكًا ومحيّيًا الجزائريّين. ويجزم نيكوليان بأنّ السفر إلى الجزائر كان بهدف واحد وهو " إيجاد بدائل للغاز الروسي نتيجة انعكاس العقوبات على روسيا من جرّاء حربها على أوكرانيا حيث بدت فرنسا المتضرّر الأكبر. " ويتابع " لكنّ الإيطاليّين سبقوا الفرنسيّين وطلبوا كميّات كبيرة من الغاز الجزائري." ويؤكّد نيكوليان بتأخّر فرنسا في إيجاد الحلّ لأزمة الطاقة، وماكرون يفشل في زيارته للجزائر. حيث لحظ نيكوليان عودة ماكرون إلى فرنسا فارغ اليدين وطالب من الفرنسيّين في مؤتمر صحافي تعديل استعمالهم للطاقة لمواجهة الأزمة. فزيارته لم تنتج سوى المزيد من الفشل في سياساته الخارجيّة. بحسب نيكوليان.
ملفّ اللاجئين وتأثيره في فرنسا وأوروبا
ويعتقد الهدبان بأنّ " ملف الغاز هو ملفّ مهمّ لأوروبا، ويظهر أن هناك إجماعا على تهميش روسيا وعدم العودة لاستيراد الغاز الروسي، وبالتالي الجزائر إضافة إلى قطر قد تكونا المصدر الأقرب للحصول على الغاز." ويتابع الهدبان حديثه لـ”جسور” عارضًا رؤيته على المدى القريب بالنسبة إلى الاقتصاد الجزائري " سوف ينتعش لكنّ المشكلات الإدارية في الجزائر والفساد وسوء الإدارة سوف تحبط أي تغير جذري في الأوضاع الاقتصادية الجزائرية."أمّا في ملف الاندماج بالمجتمع الفرنسي، فيعتقد الهدبان " أن الجزائر منذ الاستعمار كانت ترفض المتفرنسين وتنظر إليهم كمواطنين من الدرجة الثانية. وفرنسا الآن تزداد عنصريّة، حالها حال أوروبا بسبب قضية اللاجئين." مع الإشارة ومع عدم توفر إحصائية حديثة توضح عدد اللاجئين السوريين في فرنسا إلا أن تقارير تفيد، بأن أعدادهم قد بلغت حوالي 16 ألفا و500 لاجئ سوري. كما وصل عدد اللاجئين الأوكرانيين في فرنسا إلى 15 ألفا في الإقليم، وفقا للحكومة في شهر مارس الماضي. فيما أكد وزير الداخلية الفرنسية جيرالد دارمانان أن فرنسا قادرة على استيعاب ما يصل إلى 100 ألف شخص أو أكثر. فيما قالت مارلين شيابا، وزيرة الدولة المنتدبة لشؤون المواطنة، لصحيفة جورنال دو ديمانش إن 650 طفلا أوكرانيا مسجلون بالفعل في المدارس الفرنسية. كما أعلن ديدييه ليسكي رئيس المكتب الفرنسي للهجرة والاندماج (أوفي) أنه يوجد 99 ألف لاجئ أوكراني في فرنسا يستفيدون من علاوة طالب اللجوء (إيه دي إيه) وذلك في الأوّل من شهر آب المنصرم.
وفي هذا السياق يختم الهدبان حديثه لـ”جسور” بتصوّره في موضوع الاندماج: "هو أكثر صعوبة في الوقت الحالي نتيجة لكثرة موجات النزوح إلى فرنسا."
فشل في السياسة الخارجيّة
لمقاربة السياسة الخارجيّة التي اتّبعها الرئيس إيمانويل ماكرون في عهده كان لموقع “جسور” حديث مع الباحث والصحافي الفرنسي ليو نيكوليان الذي أشار إلى أنّ " الزمن الآن هو صعب جدًّا بالنسبة إلى الرّئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون. فحتّى قبل انتخابه للمرة لأولى لم تكن زيارته إلى لبنان سوى للقاء الثلاثة آلاف لبناني – فرنسي الذين أغلبهم من اليمين المتطرّف مع الرئيس السابق ساركوزي بهدف كسب أصواتهم فقط."
ويكشف نيكوليان لـ”جسور” أيضًا أنّ "اللقاء الذي جمع ماكرون برئيس الحكومة اللبنانيّة السابق سعد الحريري كان فقط بهدف تمويل حملته الإنتخابيّة. وهذا المسعى أتى من السيد جاك مشعلاني المقرّب من حزب القوات اللبنانيّة والمناهض لمشروع حزب الله في لبنان. "
وفي معلومات خاصّة لـ”جسور” يفيد نيكوليان بأنّه " بعد نجاح ماكرون، عرض مشعلاني أمامه إشكاليّة وجود حزب الله في لبنان كدولة من ضمن الدّولة، فما كان من الرئيس الفرنسي إلا أن شكره على جهوده كلّها وأرسله خالي الوفاض."ويتابع نيكوليان لـ”جسور” عن الجولة الثانية التي قام بها الرئيس ماكرون التي كانت في تونس حيث ووجه بمطالبة شديدة من التونسيّين الذين طالبوه بتحرير الأسير اللبناني السياسي في السجون الفرنسية جورج إبراهيم عبدالله، الذي ناهز عامه السادس والثلاثين في معتقله. ويشير نيكوليان إلى " أنّ التونسيّين مهتمّون أكثر من اللبنانيّين أنفسهم بقضيّة عبدالله." ولم تؤتِ هذه الزيارة بأيّ نتائج. كذلك يتابع نيكوليان ويستذكر ما قاله الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب عن ماكرون: " كلّ ملفّ يضع يده فيه يصبح ملعونًا."
فبالنسبة إليه " لقد خيّب ماكرون آمال لبنان واللبنانيّين خلال سفرتيه إلى لبنان اللتين أتت نتائجهما كارثيّة على لبنان بعد لقاءاته مع حزب الله لأنّ لماكرون مصالح استراتيجيّة في إيران لا سيّما عبر شركتي توتال وبيجو." ويكشف نيكوليان بأنّ ماكرون هو الذي " أعطى الضوء الأخضر لحزب الله لحكم لبنان عبر الوساطات التي أجراها وزير خارجيّته آنذاك "جان إيف لودريان" . ويشير نيكوليان أيضًا إلى أنّ " أفريقيا تدير ظهرها اليوم لفرنسا وأوروبا وتحاول التقارب مع دول البريكس BRICS - وهي منظمة تضم 5 دول تشكل اقتصادات ناشئة هي: البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب أفريقيا- وتحاول أفريقيا التقارب خاصّة مع روسيا.
ويختم نيكوليان بأنّ "الزمن صعب جدًّا بالنسبة إلى ماكرون وحكومته. فهو فقد الأكثريّة في الجمعيّة العامّة." من هنا، يرى بأنّ " خريف ماكرون وشتاءه قد يكونا صعبين جدًّا سياسيًّا، حيث قد تواجَه حكومته في الشارع وفي الجمعيّة العامّة على السواء."
في المحصّلة، يبدو أنّ الجزائر تعمل على الاستفادة اقتصاديًّا من الحرب الروسيّة على أوكرانيا عبر سعيها لبيع غازها للإيطاليّين، وتكتفي من الفرنسيّين فقط بالعمل على تنقية الذاكرة المجتمعيّة لشعبها على إثر ما حدث من ممارسات مشينة بحقّ الجزائريّين من قبل الاستعمار الفرنسي.