كتب بديع يونس في جسور:
إزاء أزمة تأمين النصاب الدستوري لانتخاب رئيس عتيد للجمهورية اللبنانية تكثر الآراء وتتمادى التحليلات. لا بد من قراءة متأنية لواقع الحال من الجهتين الدستورية والسياسية للحاصل اليوم.
ففيما كان الدستور في مصلحة الشأن العام كذلك السياسة من المفترض أن تكون. أما في لبنان، فيبدو ويتأكد أنّ الاثنين يسيران يدا بيد في مجابهة الصالح العام. فريق سياسي يدّعي "الممانعة" أمعن بتكريس سياسة الأعداء الهدامة أكثر من الأعداء نفسهم. فخلط القانوني بالسياسي ووظفهما معا في مشروع تفتيت البلاد ومؤسساتها وتكريس الدولة "في الغياب".
فمن الناحية القانونية، وفي حديث لـ"جسور"، يقول د. رئيف خوري الأستاذ المحاضر بالقانون الدستوري إنّ "المشترع الدستوري عندما نص على أكثرية الثلثين، أخذ بعين الاعتبار أنه في بلد متعدد الطوائف كلبنان (قائم على التوافق وميثاق العيش المشترك وعلى عدم إتاحة الغلبة لفريق على فريق) حرص المشترع أن تتمتع كل مكونات لبنان بالتوافق على اسم رئيس الجمهورية وألا يشكل أي رئيس تحدياً لأي مكوّن، بحيث يجمع ولا يفرق لكي يتمكن من الحكم وبناء المؤسسات وانتظام الحياة الدستورية، لا أن يصاب بالعجز لأنه فُرض على إرادة اللبنانيين".
ولدى السؤال حول أهمية هذا الموقع وحساسيته خصوصا وأنّ فريقاً بنى خطابه السياسي على وجوب "استرجاع صلاحيات رئيس تم إضعافه"، يشدد خوري لـ"جسور" على أنّ الرئيس لا يزال "يتمع بصلاحيات واسعة حيث هو صاحب التوقيع على جميع القوانين، وعلى المراسيم الصادرة عن مجلس الوزراء أو تلك العادية منها. يترأس مجلس الوزراء حينما يشاء ويطرح مسائل من خارج جدول الأعمال المقرر. وتسمح صلاحياته بردّ القوانين والمراسيم، والطعن بالقوانين أمام المجلس الدستوري، وبتوجيه الرسائل إلى مجلس النواب وطلب مناقشتها، ومنح الأوسمة والجنسية".
مع مرور الوقت باتت تزداد القناعة بضرورة الإتيان برئيس على مسافة معتدلة من الجميع. وفي حديث خاص لـ"جسور" يؤكد النائب فؤاد مخزومي أنّ "المطلوب اليوم أكثر من أي وقت آخر إنهاء الفراغ واستغلال الوقت للخروج من الجحيم".
بحسب مخزومي، "يبقى المرشح ميشال معوض هو أفضل خيار وطني وإصلاحي في آن، اجتمعت عليه أغلبية مكونات المعارضة وإن كان من خيار أفضل فليتفضلوا بطرحه".
على الرئيس العتيد أن "يحكم ولا يصاب بالعجز، أن يحضن ولا يفرق إلا وفق معايير الإصلاح والوطنية" يقول مخزومي. وحول هذا التوجه تتفق القوات اللبنانية مع غبطة البطريرك على الإبقاء على صيغة حضور أكثرية الثلثين طيلة انعقاد جلسات الانتخاب وعلى حصول المرشح على الأكثرية العادية في الدورة الثانية وما بعدها. يشدد غبطة البطريرك الماروني عدة مرات بمناسبات مختلفة على ضرورة احترام الأعراف الدستورية. ومن هذه الأعراف حفظ الرئاسات الثلاث للمذاهب التي تشغلها، وحفظ المناصفة في المجلس النيابي وفي مجلس الوزراء ووفقا للمادة ٩٥ من الدستور في مراكز الفئة الاولى حتى أن تتدرج الحياة السياسية وصولا إلى الغاء الطائفية السياسية. وعندما يشدد غبطته على الأعراف الدستورية يفسّر القانوني د. رئيف خوري أن "غبطته يقصد ضمنها تأمين نصاب الثلثين في جلسات انتخاب رئيس الجمهورية، وهذا ما ساقه العرف مع كل الرؤساء السابقين بمن فيهم بشير الجميل".
طيلة جولات مجلس النواب السابقة (8 مرات حتى إعداد هذا المقال)، تأمّن نصاب الثلثين في الدورة الاولى، إلا ان حزب الله ومن يدور في فلكه تعمد بعد الدورة الأولى الانسحاب لتطيير النصاب القانوني. مما يدل على عجز أي فريق على تأمين النصاب المطلوب لانتخاب مرشحه.
طرح جبران باسيل بواسطة بكركي على حزب القوات اللبنانية التباحث لمنع وصول سليمان فرنجية وطلب مواعيد لمناقشة هذا الشأن انطلاقا من أنّ الفريقين يعملان معا لمنع وصول مرشح حزب الله (غير المعلن) سليمان فرنجية لسدة الرئاسة. غير أنّ القوات اللبنانية التي جرّبت جبران باسيل وتياره عام ٢٠١٦ ولدغت من باسيل لا تقوى على تحمل لدغه عدة مرات، وهي فاقدة الثقة بمناوراته التي بمجرد استبعاد فرنجية سينسحب من أي اتفاق كما حصل بعد اتفاق معراب.
على منوال حزب الله باتت القوى المعارضة تدرك أنه ليس بمقدور أي من الطرفين تأمين الأكثرية لمرشحه. وأن الاستحقاق سيشهد المزيد من التعثر لا لأسباب داخلية فحسب، بل بفعل العوامل الخارجية. ومنها التصعيد الإيراني الأخير الذي تولاه كل من علي خامنئي وقائد الحرس الثوري، بإعلان كل منهما عن ترابط الساحات ووحدتها من اليمن والعراق وسوريا وغزة إلى لبنان. وبأن لبنان ساحة من ساحات محور الممانعة.
يرفض النائب مخزومي هذه التصريحات حول ربط الساحات حيث النفوذ الإيراني، فيؤكد لـ"جسور" أنّ "سياسة النأي بالنفس عن الصراعات التي قبلنا بها رغم هويتنا العربية ومصالح لبنان مع جواره العربي إلا أنّ فريقا يمعن في تحويل هذه البلاد إلى جزيرة منقطعة الأوصال عن العرب والعالم".
ويتابع مخزومي "أما آن الأوان لكل الأفرقاء أن يعودوا لوطنيتهم ولبنانيتهم وأن يتذكروا أن غرق المركب سيطالنا جميعا. ابن بيروت والضاحية الجنوبية في مركب واحد، ابن الشمال والجنوب والبقاع والجبل في المركب نفسه".
يناشد النائب مخزومي عبر "جسور" كل الأفرقاء "وضع الخلافات الضيقة جانبا والاتحاد على الإصلاح الداخلي ومصلحة لبنان الاستراتيجية. فينكفئ أي فريق عن أن منصة تهديد لجوارنا العربي، شريان حياة هذه البلاد. فلننظر إلى أبنائنا المنتشرين في الخليج والدول العربية والذين فتحت لهم هذه الدول الباب ليكونوا معينا ومعيلا لأهلهم الذين ساقتهم الطبقة الفاسدة إلى جحيم، وآن الأوان للخروج منه".
بالخلاصة، ولتاريخه وبالرغم من تعطيل الاستحقاق الرئاسي لم يستطع حزب الله تكرار تجربة ميشال عون. لم يقو على تجميع حلفائه لانتخاب مرشحه الذي يمتنع عن تسميته خوفا من اضطراره للتراجع عن اسمه فيصاب بنكسة معنوية. إلا انه بانتظار أن تلتقي طهران مع واشنطن على تقاطع يفرض اسم مرشحه، يعمد الحزب مع نبيه بري على تكرار المسرحية الهزلية الاسبوعية التي لم تعد تحمل أي تشويق أو جديد.
إلا أنّ الاستحقاق الراهن ليس كالمرة السابقة حين التقت فرنسا مع واشنطن وطهران إثر الاتفاق النووي وجاؤوا بميشال عون رئيسا. فلا ينقذ البلد من مآسيه ومصاعبه المالية والاقتصادية إلصاق رئيس الجمهورية بسلاح حزب الله وحماية الكرسي الأولى لهذا السلاح وإن قال نصر الله "إن المقاومة ليست بحاجة لاحد لكي يحمي سلاحها". هو بدوره القائل "نريد رئيسا لا يطعن المقاومة بالظهر". وكأن طعن لبنان واللبنانيين بالظهر مسموح والمهم صيانة سلاح حزب الله وفق منطق أمين عام حزب الله.
من هذا الكلام، يدحض نصرالله كل كلامه عن "رئيس توافقي". يسعى لرئيس أداة له يختاره ويفرضه على البلد. يراوغ في موضوع التوافق لأنه "يخدع" به اللبنانيين. يطرح على جبران باسيل حصصه في العهد المقبل وضمانات تتعلق بوزراء وبوزارات محددة تهمّ باسيل، وبحفظ مكانة تياره في الإدارة وفي المواقع العسكرية والأمنية، ويدغدغ حلم بعض الطامحين لرئاسة الحكومة ومنهم نجيب ميقاتي بتسريبات مقصودة عن ترويكا جديدة يتمناها الأخير.
يتحمل النواب الجدد ومعهم بعض النواب السنة كما جبران باسيل الذي يناور لتسمية مرشح فرنسا زياد بارود (المرتبط خفية بحزب الله) مسؤولية استبعاد انتخاب الرئيس. مجددا، لا خلاص للبنان إلا برئيس توافقي إنقاذي وإصلاحي ووطني!