كتب بديع يونس في جسور:
تشكل أفريقيا وجهة مهمّة للنظام الإيراني رغم أنها غير آخذة بالاهتمام الإعلامي العالمي مقارنة بغيرها من القارات. في هذه السلسلة نسلط الضوء على النشاط الإيراني في القارة السمراء واهتمام نظام طهران فيها.
اعتمدت إيران بالبداية على أدوات دبلوماسية واقتصادية وثقافية (أدوات غير عسكريّة) لتنفيذ سياستها الخارجية. لكنّ هذه الاستراتيجية لم تنجح كثيرًا في تهديد مصالح القوى المعادية لها عالميًا. اتّجهت بعدها إلـى الدفـع بالحـرس الثـوري للضلـوع بعمليـات سـرية فـي عـدد مـن دول أفريقيا للوصـول إلـى أهداف النظام الإيراني. لكنّ العمليـات التـي قادها هـذا الجهاز حملت تهديدات للأمن الأفريقي وأدت إلى توتر العلاقات بين إيران ودول إفريقية كثيرة.
تتمتع القارة الافريقية بموقع جغرافي واسترايتجي مهمّين في خارطة الصراعات والتوازنات، بالإضافة إلى الموارد الطبيعية التي تزخر بها. فالتفوق السكاني والعددي لدول القارة الـ٥٤، يمثلون "كتلة تصويتية" لا يستهان بها في المنظمات الدولية والإقليمية. وفي ظل الضغوط التي فرضتها الدول الغربية على إيران، عملت طهران على نقل الصراع خارج المنطقة من خلال استهداف المصالح الغربية والإسرائيلية في العالم، وسحب خطوط المعركة بعيدا من الشرق الأوسط. اعتمدت في تنفيذ هذه الأهداف على كسب الحلفاء، كما سعت لتأمين ممرات بحرية وبرية تتيح لها مواجهة العزلة وتنفيذ استراتيجيتها الإقليمية، فضلا عن تسهيل عمليات دعم حلفائها. وقد مثلت القارة الإفريقية ساحة نموذجية بالنسبة إلى الطموحات الإيرانية والحرس الثوري خصوصًا وذراعه "فيلق القدس".
بالعودة إلى عام 1979، تشـكّل الحرس الثوري الإيراني (باسـدران)، بمبادرة من الخميني بعد شـهر واحد مـن إعلان قيـام الجمهورية الإيرانية. كان الهدف من إنشـاء هـذه القـوة تصديـر الآيديولوجيا الدينيـة للنظـام الجديـد، وخلـق تـوازن فـي مواجهـة الجيش التقليدي الذي لم يشـارك في الثورة وكان محسـوبًا على نظام الشاه.
فالحرس الثوري هـو الجيش العقائدي و"الحرس الوفي" للمرشد الأعلى. يرتبط مباشـرة به ويتمتع بقيادة مسـتقلة. وخـلال 4 عقـود تحـوّل الحـرس الثـوري إلـى مؤسسـة عسـكرية تتمتع بأدوار تتجاوز أدوار الجيوش التقليدية. مع مرور الوقت لم يهيمن فقط على وظائف اقتصادية وحكومية رئيسـية، بل لعب دورًا بارزًا في صناعة القرارين الداخلي والخارجي. ووفقا للدسـتور الإيراني فإن الحرس الثوري ليس مسـؤولا فقط عن حراسـة الدولة والحفاظ علـى حـدودها، بل أيضًا "الوفـاء بالمهمـة العقائديـة للجهاد في سبيل الله بسـيادة شريعة الله عبر العالم كله".
إلى جانب دوره داخليًا (لن ندخل بالتفاصيل التي ليست محور هذه السلسلة) يعتمد الحـرس الثـوري علـى عـدد مـن الأدوات فـي تنفيـذ السياسـة الإيرانيـة الخارجيـة، أولها تصدير الثورة. طوّر هذه المهمـة لتطبيـق رؤية الخمينـي "في إحيـاء الأمـة االإسلامية (الموحـدة)" انطلاقا مـن طهران وبقيادته. تدخل أنشـطة الحـرس الثوري "المعاديـة للولايـات المتحـدة والغرب" تحـت هـذا المفهـوم. وتنـدرج جهوده بتصدير الثورة تحت عدة بنود غالبًا ما تكون متداخلة: التدخل العسـكري أو السياسـي غيـر المكشـوف لمسـاندة الثورييـن "الإسلاميين" فـي الدول الأخـرى باسـتثناء لبنان حيث دوره مكشوف وعلني متمثلا بحزب الله وميليشيات عراقية والحوثيين في اليمن.
ولتحقيق هذه الأهداف، يعوّل استخباراتيًا على جهاز المعلومات (الباسيج ومنظمة الاستخبارات). وهذا الجهاز مسؤول عن تنفيذ وتنسيق العمليات الاستخباراتية للحرس الثوري. وإلى جانب جهاز المعلومات يساعد الحرس الثوري "فيلق القدس". فبعـد وقـت قصيـر مـن تشـكيل الحـرس تم تكوين ما يعرف بـ"قـوات القدس"، كجناح عسـكري مسـؤول عـن تصدير أفـكار الثـورة وتطبيقاتهـا. فـ"قوات القدس" هي المسـؤولة في المقام الأول عن جميع أنشطة الاستخبارات الإيرانية، وكذلك العمليات السرية في الخارج.
ومع ذلك تعمل "قوات القدس" غالبًا بصورة فعلية مع التنظيمات الاسـتخباراتية الأخرى في إيـران. ووفقا لبعـض التقديـرات فإن عـدد "قـوات القدس" يصـل إلـى ١٥ ألف شـخص موجودين داخل إيران وخارجها وفي كثير من سفارات إيران في العالم. وتُعـدّ هذه القـوات أداة لتوفيـر الدعـم لحزب الله فـي لبنـان وحمـاس و"الجهاد" فـي قطـاع غـزة، والميليشيات في العراق والحوثيين في اليمن ومختلف الميليشيات الشيعية الناشطة في سوريا (زينبيون وفاطميون وغيرهما). ويقوم "فيلق القـدس" بمعظـم عمليـات الحـرس الثـوري فـي إفريقيـا، إذ تؤكد بعـض المصادر وجـود فرع داخل فيلق القدس خـاص بإفريقيا.
اعتمـد الحـرس الثـوري فـي تنفيـذ السياسـة الإيرانية فـي إفريقيا علـى استغلال مشاكل تعانـي منهـا بعـض دولهـا، وكذلـك التعـاون مـع قـوى المعارضـة وجماعـات التمرد، إذ توزعـت عمليات الحرس الثـوري وتحديدا "فيلق القـدس" على دول تمتلك خصائـص يمكـن الاعتمـاد عليهـا فـي تحقيـق الأهداف الإيرانية شرق القارة وغربها. ولكن ما هي الأهداف التـي يسـعى إليهـا الحـرس الثـوري فـي إفريقيـا والـدول التـي استطاع مد نفوذه بها لتحقيق هذه الأهداف؟
خلال العقدين الأخيرين تم اكتشاف العديد من العمليات التي استخدم فيها الحرس الثوري الأراضي والموانئ الأفريقية في بيع ونقل الأسلحة الإيرانية مما حمل تهديدات أمنية كبيرة لعدد من دول أفريقيا ومن هذه الدول السودان وليبيا ونيجيريا وكينيا والسنغال وأريتريا وغيرها. (التفاصيل في الأجزاء اللاحقة). وإلى جانب بيع الأسلحة، اعتمد على تصدير الأسلحة لمناطق النزاعات وللحركات المتمردة. كما حوّل أفريقيا لساحة يستهدف فيها مصالح القوى المعادية إضافة لساحة "دعم للحلفاء" كما الاستحصال على اليورانيوم من القارة الغنية بالموارد الطبيعية.
دوره في السودان في الجزء الثاني. يتبع...