يتّضح يومًا بعد يومٍ جوهر الخلاف اللبناني القائم على أساس الصراع الهُوِيَّاتي الحضاري. وهذا الصراع اتّخذ في لبنان البعد الطائفي – الديني لأنّ هذه هي تركيبة لبنان الحقيقيّة. وأيّ طرح لا ينتقل من قاعدة الهرم إلى رأسه ولا تُحاكي الواقع المجتمَعي لن تستطيع معالجة هذه الإشكاليّة بالذات.
لبننة اللامركزيّة
لا زال الموقف المبهم الذي أطلقه رئيس حزب القوات اللبنانية الدكتور سمير جعجع حول إعادة النظر بالتركيبة اللبنانية يثير الجدل السياسي والاجتهادات الصيغويّة. ورُبَّ سائلٍ عن الجديد في هذا الطرح بالنظر إلى المشروع الإتّحادي - الفدرالي - الحيادي الذي حملته الجبهة اللبنانية في سبعينيّات القرن الماضي، ورافق هذا الطرح مانيفست حزب القوات اللبنانية بعد نشوئه.
لكنّ الفارق الجوهري في طرح "الحكيم" راهنًا أنّ هذا المشروع لم يعد محصورًا في بعده المسيحيّ- المسيحيّ فقط، بل يتّخذ هذا الطرح بعد عمليّة تيويمه (updating) البعد اللبناني ذات المنحى الجمهوري، نحو تحرير الدولة العميقة. إذ هو يفصل بين مَن يريد السلبطة على الدولة المركزية بشلّه قدراتها الدستورية، وبين مَن يريد دولة لامركزية موسّعة الصلاحيات اللامركزية فيها لتسيير شؤون الناس فيها.
والغلبة اليوم باتت للخيار الثاني. فمَن مِن اللبنانيين لا يريد الكهرباء أو المياه أو الاستقرار الأمني والسياسي؟ هذه المسائل هي قضايا مشترَكة؛ فبتحقيقها يعود لبنان مساحة استثماريّة، وقبلة سياحيّة للعالم أجمع. وبذلك يرتاح المجتمع الدولي إذ يوفّر مصدرًا جديدًا من مصادر الطاقة للعالم.
من هنا، حاجة الاستقرار والانتظام والإصلاح باتت مسائل ملحة دوليّاً اكثر مِن أن تكون مجرّد حاجة محلّيّة. لا سيّما وأنّ المواجهة الكلاسيكيّة منذ العام ٢٠٠٥ وحتّى الساعة لم تؤتِ بأي ثمار لانّ الممانعين أجهضوا الجهود المؤسساتيّة كلّها؛ وليس آخرها مفاعيل انتخابات أيّار٢٠٢٢ باعتمادهم نهج الديمقراطية التعطيلية.
عجز معارضة هذا الطرح
فالمعارضة السياسية من داخل المؤسسات تمّ تعطيلها بنجاح. وأي مواجهة مسلّحة مرفوضة لأنّنا كلبنانيين، مسلمون ومسيحيون، تجرّعنا كأس السُّمِّ هذه، ولا رغبة لأحد بتكرار تجارب الماضي. وذلك كلّه بالحفاظ على مبدأ سيادة الدولة الواحدة الموحّدة على مساحة الـ ١٠٤٥٢ كلم٢، وأي مشروع تقسيميٍّ مرفوض، بل المطلوب البحث في كيفيّة تمتين الصيغة في إطارها الإتّحادي. وحده النظام اللامركزي الموسّع يضمن هكذا صيغة. وأيّ فريق لبناني سيرفضه إنّما يكون رفضه نابعاً من قدرته على السلبطة على مركزية الدولة. وهذا المبدأ وجب تغييره. وقناعة اللبنانيين اليوم بهذا التغيير بالذات باتت أكبر بكثير من زمن الماضي.
وهذا المبدأ بالذات يدحض نظريّات التقسيم كلّها التي يتّخذ منها الممانعون فزّاعة لبعض الذين رؤاهم السياسيّة لازالت رجعيّة ومن القرن الماضي. وهم لم يستطيعوا أن يخرجوا ممّا رسمه لهم الاحتلال السوري عبر سيطرته على المركز لأنّ هذه المسألة شكّلت نقطة قوّة لمحورهم. لكنّ ذلك لم يعد مقبولاً ولا مرغوباً من أكثرية اللبنانيين؛ حتى أولئك
الذين يُعتَبَرونَ بيئةً حاضنةً للممانعة التي جاع أهلها مثلهم مثل أي لبنانيٍّ كان. وهذا ما لن يتمكّن محور الممانعة من تخطيه بعد اليوم. لأنّ ذلك وحده سيوفّر مقوّمات الصمود والنّهوض كلّها وللبنانيين كلّهم.
ترتيب الأولويّأت السياسيّة
وممّا لا شكّ فيه أنّ هذا الطرح أعاد ترتيب الأولويات السياسيّة ووضع من جديد رئيس حزب القوات في واجهة المشهد السياسي. وهذا ما أعاد الممانعون أيضًا إلى بيت الطاعة السياسي، حيث لم يعد بإمكانهم إلا التجاوب مع هكذا طرح لأنّه يحاكي وجدان أهل بيتهم بالذات. لذلك، لا يبدو أنّ التعقيد الرئاسي سيستمرّ إلى أمدٍ طويل؛ لاسيّما بعد قراءة المشهديّتين الدوليّة والاقليميّة، حيث انعكست الزيارات السياسية الأخيرة لبعض الدول الإقليميّة إيجاباً في الملفّ الرئاسي. ولا يبدو أنّ التعطيل الذي فرضه صراع الجناحين فرنجية - باسيل في البيت الممانع سيُعطِّل إلى ما لا نهاية. فالترسيم الذي قدّمته منظمة حزب الله على المذبح الدولي يحتّم على هذا الفريق تسيير المصلحة الدولية التي تُعتَبَرُ هذه المنظمة شريكاً فيها بعد التنازلات الترسيمية التي قدّمتها.
هذا الصراع الداخلي الممانِع رفع أسهم قائد الجيش الرئاسيّة كثيراً، عطفاً عليه أيضاً المقبوليّة الإقليميّة، والرّضى الدولي الذي تجلّى دائماً في مساعدته بملفّ المساعدات للجيش اللبناني مباشرةً وليس عبر الحكومة اللبنانية؛ ما أثار عاصفة بين القائد ووزير الدفاع؛ سرعان ما وُئدَت في بكركي. ولعلّ الردار الجنبلاطي قد التقط الإشارات الصحيحة في هذه المرحلة. وما الدّور الذي يلعبه هذا الفريق بالذات إلا لكبح عجلة التعطيل والسعي قدماً في مواكبة الطرح السياسي الذي سيكون طرح المرحلة القادمة. ومَن لن ينخرط في هذا الطرح سيصبح خارج المرحلة.
v
المطلوب التوافق على مرشّح ليس توافقيًّا
لا يمكن للتعطيل أن يطول أكثر. لقد تمّ إجهاض مبدأ الديمقراطيّة التعطيليّة بديناميّة المواجهة السياسيّة التي نجح " الحكيم" بفرضها لأنّها استندت إلى الفكرة اللبنانيّة الجامعة وتقاطع المصالح الدّوليّة والإقليميّة. لذلك، شهدت الساحة اللبنانيّة لقاءات لمّ الشمل في البيت الواحد ليتمكّن هؤلاء من مواكبة هذه المرحلة. بذلك، همُ أنفسُهُم أسقطوا نظريّة الانتخاب بال 65 صوتاً التي هدّدوا بها. أي مرشّح ممانِع سقَط والانتقال إلى البحث عمّن يُتَوَافَقُ عليه هو المطلوب. وليس طرح أيّ مرشّح توافقي. وهذا الفارق الجوهري الذي سيحسم هذا الصراع.
وفي السياق عينه، لفتت بعض المصادر الدّوليّة إلى حجم الضغوطات التي تمارس على إيران لتحرير ملفّ الرئاسة اللبنانيّة بهدف إعادة إطلاق العجلة المؤسّساتيّة في لبنان. وستتنازل إيران عن هذه الورقة لتخفّف الضغط الدّولي عنها. لكن الحذر واجب. يبقى أنّ التنبه من أيّ عمل قد تقدم عليه منظمة حزب الله لرفع أسهمها بهدف فرض شروط على قائد الجيش اللبناني العماد جوزاف عون المرشّح الرئاسي الذي ارتفعت أسهمه اكثر من غيره من المرشّحين المطروحين. فهل تفتح أبواب قصر بعبدا في القادم من الأيّام؟