تحاول روسيا تطبيع العلاقات التركية السورية بالرغم من المعارضة الايرانية الواضحة لهذا التطبيع، ولكن روسيا تمارس ضغطها على النظام السوري الذي يمانع عملية التطبيع بسبب شروطه المعلنة السابقة المتمحورة حول الانسحاب التركي من المناطق السورية المحتلة، لكن روسيا تحاول إبعاد ضربة قادمة تهدد بها تركيا ضد مناطق حزب العمال الكردستاني في شمال سوريا.
إبعاد تركيا عن الناتو
ما يعيق ويساعد على تطوير العلاقات الروسية التركية من أكثر الموضوعات التي تمّت مناقشتها أخيرًا بظل التحدي التي تمارسه انقرة بوجه الناتو. يوضح الرئيس التركي رجب طيب أردوغان لحلفائه في الناتو، وكذلك للعالم بأسره، سياسته الموجهة نحو المصالح الوطنية.
بالرغم من كون تركيا لا تزال عضوًا في حلف شمال الأطلسي وبؤرة أمامية لهذه المنظمة (الناتو) في شرق البحر المتوسط. حيث يملك هذا البلد ولديه أكبر جيش لحلف شمال الأطلسي بعد الولايات المتحدة، وإلى جانب ذلك، فهو الجيش الذي كان منذ عام 1984 في حالة حرب مع الأكراد من حزب العمال الكردستاني)، الذي كان يسعى للحصول على حكم ذاتي لكردستان التركية داخل تركيا.
الخلافات التركية – الروسية
تعتبر السلطات التركية حزب العمال الكردستاني منظمة إرهابية محظورة في البلاد، وأي شخص يتحدث بطريقة أو بأخرى بدعم حزب العمال الكردستاني يُعلن بأنه داعم للإرهابيين، بينما حزب العمال الكردستاني حليف لروسيا ومدعوم من مخابراتها الذي تأسس في العام 1984.
عارضت تركيا بشكل قاطع إعادة توحيد شبه جزيرة القرم مع الاتحاد الروسي، ولم تولِِ اهتمامًا لتاريخ شبه الجزيرة أو لإرادة سكان القرم التي تم التعبير عنها بوضوح في الاستفتاء. وخان القرم كان تابعًا للإمبراطورية العثمانية، والحنين إلى العصور الإمبراطورية تحظى بشعبية كبيرة في تركيا الحديثة.
يعتبر الرأي العام في تركيا أيديولوجيا للغاية، ويتطابق مع التوجهات الروسية، فإن الأيديولوجية ليست محظورة في الدولتين. لقد تغيرت الأيديولوجية التركية تدريجيًا، خاصة بعد وصول حزب العدالة والتنمية، الذي يرأسه أردوغان، إلى السلطة عام 2002. فإن الفكرة الحداثية القديمة لمصطفى كمال أتاتورك مع التركيز على أوروبا المواءمة مع الغرب تتغير تدريجيًا إلى أهداف أيديولوجية جديدة، ويمكن المقاربة بين الايديولوجية الروسية التي تغيرت تدريجيا من القيصرية والاشتراكية والشيوعية وصولا الى البوتينية الشوفيانية.
يجدر تسليط الضوء على ثلاثة اتجاهات "أيديولوجية" رئيسية في السياسة الخارجية التركية تتناقض مع التوجهات الروسية وهي:
1- الاتجاه الإسلامي
لقد وضع حزب العدالة والتنمية نفسه كحزب إسلامي معتدل قريب من الديمقراطيين المسيحيين في ألمانيا. كما أحب العالم الإسلامي الفكرة، وأصبح أردوغان، الذي أظهر بوضوح تمسكه بالقيم الإسلامية وتحدث دفاعًا عن الفلسطينيين، معبود الشارع العربي. ويود أن يصبح زعيم العالم الإسلامي او على الأقل في الشرق الأوسط.
لكن اندلاع الشجار مع الرئيس السوري بشار الأسد، الذي وصفه أردوغان بصوت عالٍ بأنه "جزار" لتفريق التظاهرات الشعبية وبدأ بنشاط في دعم المعارضة الإسلامية في سوريا. تحولت الأراضي التركية وأصبحت تركيا بنظر روسيا إحدى قواعد تدريب الإرهابيين الرئيسية، وتم تسليم الأسلحة عبر تركيا، وعقدت اجتماعات ومؤتمرات مختلفة هناك في محاولة لإنشاء جبهة إسلامية موحدة.
عندها اصطدمت المصالح الروسية والتركية بطريقة مباشرة كادت تؤدي الى حرب مباشرة. لان روسيا تتهيّأ لمحاربة المعارضة التي وصفتها بالإرهابية من البوابة السورية، للدخول نحو الشرق الأوسط مجددا كلاعب قوي.
قامت القوات الجوية الروسية بدعم الجيش الحكومي، ومليشيا حزب الله التابع لإيران والمليشيات الولائية لتقليص الأراضي التي تسيطر عليها المعارضة بشكل كبير، مما دفعت بروسيا لفرض نظام المفاوضات "الروسية - التركية - الإيرانية". والتي اطلقت التسوية لـ "صيغة أستانا"، ونقلت مقاتلي المعارضة إلى إدلب السورية، حيث تولى الأتراك مهمة حفظ النظام.
لقد تمكنت هيئة تحرير الشام من إخضاع معظم الجماعات خلال الحرب الأهلية المحلية، مما فرض على تركيا أن تحسب حسابًا لذلك. و تمكن الجيش السوري، بدعم من روسيا، من صد المسلحين في إدلب، وفرض سيطرته على الطريق السريع المهم استراتيجيًا الذي يربط اللاذقية بحلب، وأصبحت نقاط التفتيش التركية في المنطقة محاصرة من قبل القوات السورية.
الهدف المهم للأتراك هو ضرب الأكراد الذين يسكنون شمال سوريا. وبحسب الرواية التركية، فإن "وحدات الدفاع الذاتي الشعبية" التابعة لأكراد سوريا هي هياكل تابعة لحزب العمال الكردستاني، أي أنها، بالمعنى التركي، إرهابية. وقد نفذ الأتراك ثلاث عمليات للسيطرة على مناطق سيطرة وحدات حماية الشعب الكردية، واحتلال عفرين التي يقطنها الأكراد، ولابعادهم حوالي ثلاثون كيلومتر عن الحدود التركية.
تعاون الأكراد بنشاط مع الولايات المتحدة، وتلقوا أسلحة وذخيرة من التحالف الأمريكي. لكنهم أصبحوا القوة الضاربة الرئيسية في القتال ضد الدولة الإسلامية خلال العمليات التركية، تم طرد حوالي 300 ألف كردي ويزيدي نتيجة تصديهم للقوات التركية.
لكن روسيا وحدها تمكنت من إقناع قيادة الأكراد السوريين بنقل مواقعهم على الحدود مع تركيا إلى سيطرة جيش النظام السوري، وأن تحرس الحدود بين الأتراك والأكراد دوريات روسية تركية. العملية التركية الجديدة، التي يهدد أردوغان بشنها ، تطلبت مرة أخرى التدخل الروسي.
2-الاتجاه الأيديولوجي الثاني للسياسة الخارجية التركية
هو التوجه "العثمانية الجديدة"، والتي يعبر عنها في حشد النفوذ السياسي لأنقرة في البلدان التي كانت في السابق جزءًا من الإمبراطورية العثمانية. يُنسب تأليف هذا المفهوم إلى أحمد داود أوغلو، وزير الخارجية الأسبق ورئيس الوزراء فيما بعد، الذي تخلص منه أردوغان، وكذلك بعض مساعديه السابقين الآخرين.
صحيح أن مثل هذه المشاعر لا تحظى بشعبية إلا في تركيا نفسها، حيث احتفظ العرب والشعوب الأخرى التي كانت جزءًا من الإمبراطورية العثمانية بذكريات سلبية عن تلك القرون عندما حكم الأتراك أراضيهم.
لكن زيادة نفوذ الاتراك في الأراضي العثمانية السابقة ضرورية لهم، ولا ينسى الأتراك الفوائد المحددة لهذا النفوذ. لذلك، بعد أن دعموا حكومة رئيس الوزراء الليبي آنذاك فايز سراج، وأبرم اتفاقية معه بشأن تقسيم الجرف المتوسطي، مع أخذ الجزء اليوناني منه، على رغم أن هذا مخالف تمامًا لاتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار. مما دفع بدعم الأتراك لهذه الحكومة في الحرب ضد المشير خليفة حفتر، وأرسلوا مستشارين، زودوا المعارضة بطائرات مسيرة بيرقدار، وأرسلوا آلاف الإسلاميين السوريين إلى ليبيا.
هنا مرة أخرى، اصطدمت مصالح تركيا وروسيا، وكانت الطائرات بدون طيار التركية، التي تعاملت أنظمة الدفاع الجوي الروسية معها في سوريا ، مفيدة في ليبيا أيضًا.
3- الاتجاه الرئيسي الآخر للسياسة الخارجية التركية يتمثل في العودة إلى الأفكار القديمة للقومية التركية
إنشاء دولة قومية تركية معينة "توران الكبرى". ولكن صحيح أن الأتراك في الوقت الحاضر يتحدثون عن توحيد جميع الشعوب التركية في إطار منظمة الدول التركية، وإنشاء هياكل موحدة بين الدول، وما إلى ذلك.
فتعمل منظمة الثقافة التركية "تركسوي"، والأكاديمية التركية، وجمعيات وكالات إنفاذ القانون منذ سنوات عديدة لتعزيز النفوذ التركي الناعم، وكذلك يتم تدريب ضباط من الدول التركية في المدارس العسكرية التركية.
كما نوقشت فكرة إنشاء "جيش توران" لسنوات عديدة. لكن في وقت من الأوقات، عارض الرئيس السابق لكازاخستان، نور سلطان نزارباييف، مثل هذا التحول، على الرغم من لقبه "بالشيخ الأكبر للعالم التركي".
الأتراك حققوا الكثير
قبل مشاجرة أردوغان مع فتح الله غولن، الداعية الإسلامي الأكثر شعبية، تم إنشاء العشرات من "المدارس الثانوية التركية" في الجمهوريات والمناطق الناطقة بالتركية، حيث تم تدريب الآلاف من "الأتراك من خارج البلاد". تم تعليم 28000 طالب من هذه الجمهوريات والمناطق في الجامعات التركية الذين شكلوا النخبة الحاكمة في العالم التركي.
وربما سبب هذا التوجه ازعاج مباشرة التوجهات القومية الروسية في مناطق سطوتها في القوقاز والبلقان واسيا الوسطى. فما الذي استطاعت روسيا أن تفعله في مجال التعليم والثقافة منذ 30 عامًا؟ ليس كثيرا. الآن فقط بدأ الاهتمام بدراسة اللغة الروسية، وتعليم الطلاب من جمهوريات الاتحاد السوفياتي السابق .
لذلك تعتبر الاتهامات الموجّهة لروسيا بأنها تقدم باستمرار تنازلات لتركيا في جميع مجالات العلاقات بين البلدين غير صحيحة بأي حال من الأحوال لأنّ تركيا باتت البوابة الاخيرة للتنفس مع العالم الخارجي والهامش الروسي الذي يساعد موسكو بالتحرك السياسي، وإقامة توازن بين اطراف استانا وعدم حصرها في الجانب الإيراني واعطاء حوافز لتركيا توازي العلاقات مع إيرانية، وبالمقابل تركيا تستفيد من الانفتاح على روسيا بانها توجه رسائل قاسية للناتو بهذه العلاقات مع روسيا من خلال :
- التجارة الروسية التركية، التي نمت خلال العام الماضي، تعود بالفائدة على الطرفين. بالنسبة للوضع الحالي في الاقتصاد التركي، فهو دعم مهم للغاية لأنقرة إنشاء محطة الطاقة النووية في أكويو يتم على أساس استثمارات رأسمالية روسية تقدر بنحو 20 مليار دولار.
-تعمل الشركات التركية وآلاف الأشخاص في موقع البناء، وهذا مرة أخرى رابط مهم إلى اهتمام الجانب التركي بالتنفيذ الناجح للمشروع.
- يُنظر إلى اهتمام أنقرة الأكبر بتحويل تركيا إلى مركز للغاز. أساس المشروع هو خط أنابيب الغاز الذي تم بناؤه بالفعل "تركيش ستريم" بالإضافة إلى "بلو ستريم" طويل الأمد. بطبيعة الحال، فإن التشغيل الناجح للمحور الجديد غير قادر حاليًا على تغطية احتياجات العالم القديم، ولكن يتم بالفعل توريد الغاز إلى جنوب أوروبا عبر التيار التركي، وستزداد أحجامه وفقًا للخطط الروسية التركية.
- تعاون البلدين في إطار "صفقة الحبوب"، ومحاولات تركيا القيام بدور الوسيط في المفاوضات بين روسيا وأوكرانيا.