من البديهي أن يكون موقف الثنائي الشيعي في لبنان بترشيح رئيس تيار المردة سليمان فرنجية لرئاسة الجمهورية ينطوي على سياقات خارجية وإقليمية ابرزها الربط بين حالة التوتر الحاصلة بين ايران والدول الغربية، وهذا الترابط عززه مؤخرًا التخوف الغربي من تمدد التعاون العسكري بين موسكو وطهران، ليكرس تعاونًا شرقيًا استراتيجيًا يبدأ في الشرق الأوسط وصولاً حتى سواحل أفريقيا المتوسطية، ويتزامن التخوف مع زيارة وزير الدفاع الاميركي لويد اوستن للمنطقة، وزيارة مارك ميلي رئيس الأركان الأميركية الى إسرائيل ومناطق سيطرة "قوّات سوريا الدّيمقراطيّة" في سوريا والمغرب، لتحمل رسالة واضحة بأنّ الخِيار العسكري وضِعَ على الطاولة ولو أنّ الأولوية تبقى في المرحلة الحالية للدبلوماسية.
هذه التحركات العسكرية مردّها الرئيسي تعالي الأصوات في أوساط الحزب الدّيمقراطي الأميركي والتي بدأت تنحاز للحلول القاسية مع إيران بعدما تمّ الكشف عن تخطّي الجانب الايراني نسبة 80% في تخصيب اليورانيوم، وهو ما يعني أن طهران باتت قادرة على إنتاج أوّل قنبلة نوويّة خلال أيّام في حال قررت الذهاب لهذا المسار.
ويبدو جليًا أن الرئيس الأميركي جو بايدن لايزال غير متحمس للخيار العسكريّ ضدّ ايران، لكنّ الضّغوطات الدّاخليّة نجحَت في إرسال أعلى ضابطٍ في الجيش الأميركيّ إلى المنطقة، ويبدو أن مارك ميلي ناقشَ مع الرتب العسكرية الإسرائيلية خططهم الجاهزة لتوجيه ضربات لإيران، مع تنبيه المسؤولين في حكومة نتنياهو إلى أنّ إدارة بايدن لا تؤيّد أيّ تحرّك إسرائيليّ مُفاجئ ضدّ المُنشآت النّوويّة الإيرانيّة، وأنّ أيّ تحرّك عسكريّ نحو الدّاخل الإيرانيّ ينبغي أن ينال المُوافقة الأميركيّة قبل أي شيء آخر.
وبدا واضحًا تقصّد واشنطن بتسريب معلومات عن زيارة وزير دفاعها وركزت على عدم تفكير واشنطن بترك الشرق الأوسط وبحره المتوسط دون حماية وحضور أميركي، وأمام القلق الأميركي من التمدد الاقتصادي والصناعي للصين، تبدي إدارة بايدن تصميمها على مناقشة خطورة الشراكة الروسية-الإيرانية مع حلفائها العرب، وإبراز العواقب السلبية لهذا التعاون العسكري المتنامي بين الجانبين، والذي يؤثّر على مسار الحرب الدائرة في اوكرانيا، وعلى التوازنات السياسية في سوريا والعراق ولبنان.
وثمة قراءة حيال تخصيص ميلي زيارته للأردن ومصر وعدم اجراء زيارة مماثلة لدول الخليج، لكن تبدو هذه الزيارة بأبعاد أكثر دقة، وهي الإشارة إلى أن القوة العسكرية الأكثر قدرة في العالم تحمل مشروع تعاون عسكري وأمني متعدد الأطراف في الإقليم الملتهب. حيث أن الاردن على تماس مع النفوذ الإيراني من خلال تشارك الحدود البرية مع العراق وسوريا، والمشروع الذي تطرحه واشنطن يقوم على ضرورة إيجاد آلية تنسيق بين القوات الأميركية والمخابرات المركزية ووحدات الصواريخ الدقيقة والأمن المائي من جهة والعرب والإسرائيليين والأتراك من جهة أخرى.
والأهم من كل ذلك فإن تعاطي الإدارة الديمقراطية مع التطورات الشرق أوسطية نابعة من الظروف الاميركية المحلية لإدارة بايدن والتي تدفع به إلى اظهار حزم وقوة على اعتاب الاستحقاقات الأميركية المقبلة والتنافس الحاصل مع الجمهوريين، في ظل حملات جمهورية تندد بالسلوك الضعيف للإدارة الحالية في مواجهة ايران وروسيا والصين.
والعسكري الايراني ـ الروسي اعطى روسيا المتصدعة أوكرانيًا اوراقًا عسكرية ومنح طهران دفعًا اقتصاديًا وميدانيًا في سوريا والعراق. والمقصود هنا حماية الطريق البرية التي تربط ايران بلبنان انطلاقًا من قاعدة التنف، لذا أتت فكرة اغلاق الساحل الشرقي للبحر المتوسط امام ايران بحرًا وجوًا، وهو ما يشمل لبنان بطبيعة الحال عبر الاعداد لضرب "ايران السورية" بعملية مشتركة مدعومة من واشنطن تنفذها "قسد" وقوات سوريا الحرة ضد المليشيات الإيرانية لقطع طرق الامداد الأساسية للوجود الإيراني.
وأمام كل تلك التعقيدات الحاصلة برز التشدد السعودي-القطري برفض وصول سليمان فرنجية لرئاسة الحكومة، أولاً عبر ما غرد به السفير وليد البخاري عقب اعلان بري-نصرالله دعمه، وثانيًا عبر ابلاغ السعوديين الأطراف الداخلية والخارجية عدم قبولها المطلق بعقد صفقة مقايضة في لبنان بين رئاستي الجمهورية والحكومة لأن التجارب مع المحور الآخر في لبنان غير مشجعة.
وهذا الموقف زاده صلابة الاجتماع الامني الرفيع والذي عُقِدَ في الرياض بحضور مسؤولين أمنيين خليجيين وأميركيين، حيث أطلع الأميركيّون مُمثّلي دول الخليج على جدول زيارتَيْ الجنراليْن ميلي وأوستن، وبحثَ الاجتماع التهديد الإيرانيّ لشركاء واشنطن في المنطقة، وضرورة توحيد المواقف بين الحلفاء في المرحلة المقبلة.
ومن هذا المنطلق عادت المشاورات الدبلوماسية في الكواليس بين الدول الخمس التي كانت اجتمعت في باريس للبحث في الفراغ الرئاسي، وكان لافتًا تسريب موقف سعودي تمخض عن لقاء السفير البخاري مع نظيرته الفرنسية حول رفض الرياض أي محاولة للالتفاف على مخرجات اجتماع 6 شباط/فبراير في باريس، وترويج فكرة المقايضة بين سليمان فرنجية ونواف سلام بسبب فشل هذه التجربة سابقًا عبر الإطاحة بالتفاهمات.
في هذا الإطار تُستكمل المشاورات الدولية والإقليمية حيال لبنان، في ظل التماهي الأمريكي والقطري مع السعودية، وعليه جاء اقتراح الدوحة بانعقاد النسخة الثانية للاجتماع هذه المرة في جدة بدلاً من باريس، وهذه رسالة من الأطراف المشاركة بدعمها إعلان الرياض رفض وصول مرشح الأسد- حزب الله، وهذا الاجتماع يبدو أنه سيعقد خلال الأيام المقبلة وتحديدًا قبيل أيام من بدء شهر رمضان، بهدف البحث في استكمال اجتماع باريس واتخاذ خطوات أكثر مواكبة للأزمة الداخلية مع إعلان الثنائي ترشيح فرنجية.
كذلك ينتظر الجميع استكمال حزب الله لخطواته، فالخطوة الأولى تهدف إلى الاحتفاظ بضمانات تطال الملفات الحساسة للحزب، فيما الطروحات الخارجية تفرض تغيرًا أساسيًا في البلاد وحتى في أداء الحزب الداخلي والخارجي، وهناك من يعتقد أنه وعندما يحين الوقت للانتقال إلى المرحلة السياسية الجديدة، فحينها سيخوض الحزب نقاشًا جديًا يشمل الملفات كافة، للحصول على هذه الضمانات سواء من أي مرشح مفترض التوافق عليه لرئاسة الجمهورية.