كلّما ضاق الخناق على أفرقاء إيران في لبنان تراهم يلجؤون إلى خيار من اثنين: إمّا استخدام فائض القوّة غزوًا أو اغتيالا، وإمّا طرح الحوار الوطني العقيم أساسًا في حالتهم هذه.
وهذا الفريق بالذات يريد الحوار بكلّ شيء إلا بسبب الأزمات التي توالت على لبنان، بمعنى آخر، بسلاحه الذي قوّض السيادة بقدرته ونجح بتثبيت انحلال الدّولة لحساب دويلته. من هنا يُفهَمُ تهجّمه الدّائم على حزب القوات اللبنانيّة، إن كان بالمباشر أو عبر وسطاء، لمجرّد إعلان هذا الحزب رفضه هذا الحوار بالذات، وإن كان على البطريركيّة اللبنانيّة في بكركي لدعوتها إلى مؤتمر دولي، لطالما حاول إثبات عدم جدواه مستخدمًا الذرائع الدّوليّة لدحضه هذه النّظريّة.
هذا الفريق الذي ما فتئ يعمل بالسياسة على قاعدة المثل القائل: ما هو لي هو لي وحدي حصرًا، أمّا ما هو لكم فهو لكم ولي بالتوافق والتشارك عملاً بمبدأي الميثاقيّة والعيش المشترك. من هنا، لا يطرح هذا الفريق مثلاً التوافق حول رئاسة المجلس النيابي، فهذا الأمر هو من المقدسات عنده وممنوع المسّ به.
ولا حتّى حول رئاسة الحكومة متى استطاع فرض رئيسا مكلّفًا ومن ثمّ تشكيلة وزاريّة يكون للفريق السيادي فيها الفتات، فقط حفاظًا على الصورة أمام المجتمع الدّولي.
اليوم الحاجة تكمن فقط في انتظام العمل المؤسّساتي أوّلاً، لتعود عجلة الدّولة إلى دورانها الطبيعي. فيُصار بعد ذلك البحث في كلّ شيء من دون أيّ "تابوهات" أو محرّمات في المؤسّسات حيث يجب أن يكون الحوار الذي دعا إليه الرئيس برّي.
ولا يحاولنَّ أحد أن يهوّل على اللبنانيّين بأنّ رفض أيّ حوار قبل حلّ هذه الأزمات التي ممكن حلّها متى تمّ الالتزام بأطر العمل الديمقراطي مؤسّساتيًّا قد يؤدّي إلى استمرار للأزمة في ظلّ الانقسامات الحاليّة. فلا يمكن لهذا الفريق بعدما تمّ لجم قدرته المسلّحة بعد تسليمه للعدوّ الاسرائيلي تحت الضغط الدّولي في زمن السلم ما لم يسلمه إيّاه في زمن الحرب تحت ضغط المقاومة التي كان يدّعيها.
الحوار المطلوب اليوم ليس حول اسم للرئاسة تتشارك فيه هذه القوى مع الفريق السيادي الذي ترجم إرادة النّاس الذين قالوا كلمتهم في صندوق الاقتراع في 15 أيّار/مايو 2022. بل الحوار المطلوب حول أيّ كيان يريدونه ليصار إلى بناء الدّولة على أسسه.
وهذا لن يتمّ إلا تحت قبّة البرلمان. من هنا، ما يجب إدراكه أنّ سلطة إيران في لبنان باتت اليوم كمن يملك راجمة بلا صواريخ. فهذا الفريق بالذات لا يقدر أن يستخدم وهج سلاحه في الدّاخل كما اعتاد ذلك، لأنّه خضع للإملاءات الدّوليّة. لا سيّما وأنّه يفقد قليلا الشريان الذي يمدّه بالدّعم المادي بعد الأحداث التي تدور في إيران.
صحيح أنّ روحيّة الدّيمقراطيّة التي نصّ عليها اتّفاق الطائف هي توافقيّة، لكنّ التصويت هو حقّ أقرّه أيضًا اتّفاق الطائف. ولا يمكن تحويل الديمقراطيّة التوافقيّة إلى ديمقراطيّة تعطيليّة بحجّة التشاركيّة. لأنّ المشرّع أقرّ الدّستور على أساس نيّة السياسي في تسيير المرفق العام لا في تعطيله.
وهكذا تسقط كلّ بدع التعطيل. وبالطبع ذلك لا يعني أنّ بديل الحوار سيكون بانتظار حلّ خارجيّ ما، بل الحلّ سيكون باقتناع كلّ المعرقلين والمعطّلين بأنّ لا طائل لاستمرار النّاس بتحمّل المزيد من زيفهم وريائهم بحجّة الحفاظ على الدّولة، وهم الأساس في هدم هيكلها.
أمّا بالنسبة إلى أيّ تدخّل خارجي فيكون عند قصور السياسيّين اللبنانيّين عن انتاج حلول لأزماتهم، وصحيح أنّ هذه المسألة قد حصلت في السابق حيث استجاب اللبنانيون لدعوات الخارج إلى الحوار للبحث في الحلول. لكن الأَوْلى بالمنظّرين عن استحالة المؤتمرات الدّوليّة من أجل لبنان اليوم أن يمارسوا عملهم السياسي بحسب ما أناطه الدّستور، ليس كما يحلو لهم تفسيره وتعطيله وتفريغه.
ولا تكون مقبوليّة أو رفض المؤتمرات الخارجيّة انطلاقًا من مصلحتها لفريق ما، بل يجب النّظر إليها من منظار وطنيّ يخدم كلّ لبنانيّ ببعده الإنسانيّ لا الطائفي أو المذهبي أو المناطقي. وهذا ممكن حصوله إن تداعى اللبنانيّون جميعهم إلى هكذا دعوة من دون التحجّج بما يحدث من حروب في أوروبا والعالم. لأنّ الأزمات الدّوليّة كان موجودة دائمًا.
وعندما ذهب اللبنانيون إلى طاولات حوار دوليّة كان لهم ما أرادوا. من هنا، مفروض التكاتف حول الدّعوة إلى مؤتمر دولي لا النيل ممّن يدعو إليه. ويجب الاستفادة من أيّ جهود دوليّة لا سيّما الجهود الفاتيكانية لحث دول العالم للاهتمام بلبنان، ولئن كانت الاستجابة ضعيفة وتقتصر على الدعم الانساني ودعم القوى العسكرية والامنية، لكنّ هذه الدّعوة سرعان ما ستكبر وتتعاظم بعد اقتناع كلّ الأفرقاء اللبنانيّين بجدوى وضرورة المؤتمر الدّولي.
والخلاصة، سيعقد مؤتمر دوليّ حول لبنان إن أراده اللبنانيّون. وإن رفضوه لن يعقد. الخيار الوحيد الآن هو في ممارسة السياسة انطلاقًا من كونها مهنة لتسيير المرفق العام لا لتعطيله. وعلى كلّ المعطّلين أن يمارسوا عملهم بدل التبجّح والتغنّي بدعوات الحوار.
وأقصر الطرق لمعالجة الأزمات هي أن يقوم كلّ شخص بالعمل الموكل إليه وفق ما أناطه له الدّستور. وعدا ذلك مضيعة للوقت.