في ظل تعقيدات كبيرة تعيشها المنطقة والعراق بشكل خاص، أتت النسخة الثانية من "قمة بغداد" التي انعقدت في العاصمة الأردنية عمان بحضور رؤساء دول وحكومات وعدة وزراء خارجية يمثلون 12 دولة، ما يضع مخرجات هذه القمة أمام تحديات كبرى، قد تحدث فارقا في تاريخ العراق الحديث.
وإذا كان الهدف الرئيس وغير المعلن للقمة إبعاد العراق عن إيران، وتقليص النفوذ السياسي والعسكري للأخيرة في هذا البلد العربي، إلا أنّ النتائج وفق ما يؤكد متابعون لـ "جسور" جاءت عكسية ومختلفة كليا، حيث كان وزير الخارجية الإيرانية، حسين أمير عبد اللهيان، النجم الحقيقي للاجتماع بحكم اللقاءات التي أجراها على هامش المؤتمر وفي كواليسه مع نظرائه وزراء الخارجية المشاركين. فكيف كشفت نتائج قمة "بغداد 2" عن تعزيز النفوذ الإيراني في العراق بدلا من تقليصه؟
شراكة أم إعادة تموضع؟
وعن هذا الشأن، تحدث رئيس المرصد العراقي للحريات الصحافية، هادي جلو مرعي، في تصريح لـ "جسور"، قائلا: "اللافت في مؤتمر الشراكة لدعم العراق الذي عُقد في العاصمة الأردنية عمان هو مشاركة وزير الخارجية الإيرانية أمير عبد اللهيان ودعوته إلى حوار إستراتيجي بين دول المنطقة، خصوصا وأن طهران مُتهَمة من دول عربية عدّة بالتدخّل في شؤونها الداخلية، ودعمها لقوى سياسية وتشكيلات عسكرية تساهم في بعض النزاعات المباشرة، في حين أن معظم الملفات العالقة لم تحل بعد، وهي تؤثر في مسار الأحداث والنهايات التي يصعب توقعها، ومن غير المرجّح أن يكون هذا المؤتمر حاسما لجهة تحقيق مكاسب جوهرية تتعلق في الشأن العراقي، وما يمكن تقديمه من دعم لبغداد".
وأوضح مرعي أنّ مواقف الدول المشاركة بدت متباينة ليس لجهة الإعلان عن دعم بغداد، ولكن لطبيعة تلك المواقف الداعمة، فالمملكة العربية السعودية، وعبر وزير خارجيتها عبّرت عن رفض الإعتداءات التي يتعرض لها العراق، وهي تشير إلى القصف التركي الإيراني لمناطق في إقليم كردستان العراق بحُجّة وجود مجاميع مسلّحة كردية تهدد الأمن القومي للدولتين الكبيرتين.
والمهمّ بالنسبة للعراقيين وفق مرعي، هو الإستمرار في المحاولة لتجاوز المرحلة الإنتقالية التي نتجت عن إحتلال أميركي مباشر عام 2003 وما نتج عنه من كوارث سياسية وأمنية وإقتصادية، وتدخلات خارجية، وغياب للرؤية، وعدم إستقرار، وتهديد للأمن الإقليمي، وهذه المحاولات ترتبط بمواقف الدول العربية والإقليمية، ومواقف الدول الكبرى كالولايات المتحدة وشريكاتها الأوروبية التي مُثّلت في مؤتمر "بغداد 2" والتي ما تزال تعبّر عن دعمها لإستقرار العراق، غير أنّ العقبة في هذا السبيل هي عدم الوصول الى إتفاق دولي وإقليمي يضمن مصالح دول عدة لا تستطيع العبور الى المرحلة التالية، وهي غير واثقة من نتائج الصراع، وعدم الوثوق بالخصوم.
ماذا سيجني العراق؟
وفي السياق، رأى مرعي لـ "جسور"، أنّ الجميع يتحين الفرصة لتحقيق مكاسب على الأرض خصوصا وأن تنازل طرف لا يضمن وجود تنازل مُقابَل، وهذا وحده كاف لاستمرار المشكلة، وإضعاف احتمالات تحقيق فائدة فعلية للعراق الذي يبحث عن ظروف تتيح له النجاح في التحوّل من دولة مرهقة سياسيا وأمنيا وإقتصاديا الى دولة ناجحة، وتتمكن من الإنتقال إلى مرحلة أفضل، وهذا ما يدفع بمراقبين إلى عدم الإفراط بالتفاؤل.
وفيما وصف مرعي التحولات في الصراع بالصادمة، ومعظم الدول تعاني من أزمات سياسية ومجتمعية وإقتصادية، مع إستمرار صراع الأقطاب، والحرب في أوكرانيا، أكد أنّ هذا الأمر يُصعّب إمكانية أن يكون هناك توافق كامل حول الملف العراقي، قائلا: "تركيا وإيران شريكتان في رسم خارطة إقليمية جديدة، ودول الخليج ودول عربية أخرى ترى في إيران وتركيا تهديدا لأمنها القومي بسبب الطموحات المتعاظمة لهما، في حين لا يثق الأميركيون بالدور الإيراني، ويعدونه مقلقا حتى مع التقارب العربي مع روسيا والصين، وهما دولتان تربطهما بإيران مصالح مشتركة، ومواجهة مع واشنطن والغرب، ويمكن أن يكونا ضامنين لأي توافق، أو اتفاق محتمل بين دول عربية كالسعودية والإمارات مع إيران، ومثال ذلك الحوار بين طهران والرياض في بغداد".
بُعد اقتصادي
ويشكّل المؤتمر اختبارا لرئيس الوزراء العراقي الجديد محمد شياع السوداني، الذي جاء تعيينه بعد جمود سياسي استمر لأكثر من عام. وفي هذا الإطار، يقول المحلل السياسي العراقي، علي السامرائي، في اتصال مع "جسور" إنّ "قمة بغداد 2" التي كان نصيب الاسم فقط، حرصت أن تكون اقتصادية أكثر منها سياسية، وتناولت الأزمة العالمية وضمان إمدادات الطاقة لدول أوروبا تحديدا، فيما اهتم المحور العربي " الاردن ومصر" بضمان تدفّق النفط والحفاظ على بنود الاتفاقيات السابقة، التي أُبرمت مع حكومة مصطفى الكاظمي، وبعيدا من انعكاس نتائجها على مصلحة المواطن العراقي، وسط تفاقم أزمات مزمنة، لن تنتهي بشعارات ووعود وتطمينات، ينتظر نتائجها عبر التصويت على الموازنة المتأخرة لأسباب فنيّة وأخرى تشريعية.
وبيّن السامرائي أنّ دول الخليج بحضورها اللافت، حرصت على إبعاد العراق عن التأثير والتدخل لصالح إيران، وإبقاء دوره التقريبي وكونه الوسيط في المحادثات بين طهران والرياض، والمطلوب منه نزع فتيل الخصومات والاحتقان الدائم بين الطرفين، مضيفا أنّ قيادات دول مجلس التعاون تحرص على إبقاء المحادثات مستمرة بحضور أوروبي واضح كبديل عن الأميركي المثير للحساسية مع السياسة الايرانية، وخصوصا فيما يتعلّق بالملف النووي الذي ترغب طهران أن يكون أوروبيا بامتياز ويحقّق الخطوات المتفق عليها بين الوكالة الدولية وبرنامج إيران النووي.
هل تحققت أهداف القمة؟
وفي المحصّلة، فإن النتائج المرجوّة على الأقل في المحيط العربي لم تكن متحققة وفق السامرائي، وارتفعت معها وتيرة الشعور بأنّ حكومة السوداني ستمنح أريحية واضحة للنفوذ الايراني على سواه، خلافا لسياسة حكومة الكاظمي وايلائه الملف العربي أهمية قصوى.
وأوضح أنّ ترؤس الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، للمؤتمر ومشاركته الفاعلة فيه، يؤشّر الى فشل العقوبات الأميركية والأوروبية والحصار على طهران، والإعتراف بها كقوة إقليمية عظمى يجب مهادنتها، وإعادة العلاقات معها بشكل تدريجي، والاعتراف أيضا بدورها في المنطقة، خصوصا بعد حال الهدوء النسبي للاحتجاجات، وفشلها في إسقاط النظام مثلما كان يأمل داعموها الغربيون في أميركا تحديدا.
وكانت فرنسا دعت العراق خلال القمة الى الابتعاد عن المحور الإيراني من أجل حلّ الأزمات المتعددة التي تضرب منطقة الشرق الأوسط، ويرى متابعون أنه مع سيطرة الأحزاب الموالية لإيران على البرلمان العراقي وقيام حكومة من هذه الأغلبية، فإن طهران التي زارها السوداني في نهاية نوفمبر/ تشرين الثاني المنصرم، تعزز قبضتها على هذا البلد.