كتب إبراهيم ريحان في جسور:
رَفَع النّظام الإيرانيّ عصاه الغليظة، الإعدامات. استبدَل السّجن برصاصةٍ أو حبل المشنقة الغليظ: اعتقال، فمُحاكمة صوريّة، ثمّ التعليق على حبل المشنقة.
لم تعُد المُشاركة أو الدّعوة إلى التّظاهر في إيران تُهمةً يُزجّ صاحبها في السّجن، بل تحوّلَت إلى تهمةٍ تُشبه القتل المُتعمّد أو الخيانة العُظمى وحتّى تجارة المُخدّرات.
مطلع الشّهر الحاليّ، أعلنَ النّظام الإيرانيّ إعدامَ الشّاب مُحسِن شكاري بتهمة "إصابة أحد عناصر الباسيج وإغلاق شارع غربيّ العاصمة طهران أثناء تجمّع احتجاجيّ في 25 أيلول/سبتمبر الماضي".
ليسَ شكاري الأوّل، ولن يكون الأخير بطبيعة الحال. تخطّى عدد المحكوم عليهم بالإعدام على خلفيّة التّظاهرات في إيران الـ11 شخصًا. لا يُبالي النّظام بكلّ الدّعوات الدّوليّة لوقف الإجراءات تجاه المُتظاهرين، فهو لم يُبالِ أساسًا بكلّ الدّعوات الغربيّة لوقف التّدخل بشؤون دول المنطقة، ولا تلكَ المُرتبطة ببرنامجه النّوويّ أو الباليسيتيّ وطائراته المُسيّرة.
ردّ على الدّعمِ الغربيّ للمُتظاهرين بقتلهم في السّاحات أو بتعليقهم على منصّات الإعدام. وردّ على الدّعوات الغربيّة لكبح جماح برنامجه الصّاروخيّ وطائراته المُسيّرة بإرسالها إلى روسيا، حيثُ تخطّت حدود أوروبا صواريخ فاتح 110 ومُسيّرة "شاهد 136"، لتقول للدّول الغربيّة إنّ النّظام في طهران على أهبّة الاستعداد لتعكير صفو الاستقرار في القارّة العجوز ما لم تُلبّى مطالبه النّوويّة وإطلاق يده في الشّرق الأوسط.
رسائل تجاه الغرب يُطلقها بالجملة نظام الجمهوريّة الإسلاميّة. يعرف المسؤولون في طهران كيف تُؤكَل الكتِف الأوروبيّة. كانَ لبنان هو الآخر مسرحًا للرّسائل النّاريّة الإيرانيّة التي تُصيب عواصم الغرب بطريقة أو بأخرى.
كانَ الجُنديّ الإيرلنديّ المقتول في جنوب لبنان واحدًا من هذه الرّسائل. إذ صودِفَ مقتله برصاصات انهمرَت على آليّته المُصفّحة بعد ساعاتٍ من تعليق عضويّة إيران في مجلس حقوق الإنسان التّابع للأمم المُتحدة.
ولكي نفَهم كيف يعرف النّظام الإيرانيّ عضّ الأصابع الأوروبيّة، علينا أن نتوقّف مليًّا عند زيارة وزير الخارجيّة الإيرانيّة حسن أمير عبد اللهيان إلى البوسنة والهِرسك. دَخَل وزير الخارجيّة المُقرّب من حرس الثّورة الإيرانيّ المجال الحيويّ الأوروبيّ من أرضٍ مُسلمة.
تعرِفُ طهران جيّدًا طبيعة البوسنة والهرسك، فقد شاركَ الحرس الثّوريّ ومُقرّبين منهم في دعمِ "المُجاهدين" أثناء الحرب البوسنيّة – الصّربيّة.
من يفهم الإيرانيين، يُدرِكُ أنّ عبد اللهيان لم يقم بالزّيارة للترفيه عن نفسه، أو عقد اتفاقيّات مع البوسنة والهرسك، بل يُريد أن يقول للغربيين إنّ طهران جاهزة للعمل من داخل أوروبا إذا اقتضى الأمر.
أوروبا تلتقط الإشارات
التقطَت العواصم الأوروبيّة إشارات الجمهوريّة الإسلاميّة. أرسلَت عبر دولة قطر استعدادها للاجتماع بعبداللهيان على هامش النّسخة الثّانية من "مؤتمر بغداد" الذي أقيمَ قبل أيّام على سواحل البحر الميّت في الأردن.
اجتمَع رأس الدّبلوماسيّة الإيرانيّة بمنسّق السّياسة الخارجيّة في الاتحاد الأوروبيّ جوزيب بوريل. وضعَ عبد اللهيان مطالب طهران على الطّاولة:
1- العودة إلى الاتفاق النّوويّ بالشّروط التي كانت قائمة قبل انهيار المُحادثات.
2- وقف كلّ دعمٍ أوروبيّ للمُتظاهرين في المُحافظات الإيرانيّة.
3- أن لا تتدخّل أوروبا في سيّاسة إيران في الشّرق الأوسط.
دوّن بوريل مُلاحظات عبد اللهيان، وطلبَ في المُقابل أن توقِف طهران تزويد روسيا بالطّائرات المُسيّرة، فأجابه الأوّل: "هذه المسألة غير مُرتبطة بالاتفاق النّوويّ ولا تُبحَث في اجتماعٍ مُخصّص لإعادة إحياء المُفاوضات بين إيران والمجموعة الدّوليّة".
حَبكَ عبد اللهيان "سجّادة" تفاوضه، وعادَ إلى بلاده ينتظر أن ترفَع أوروبا الرّاية البيضاء أمام الثّلج الذي سينهمرُ عليها، وبالتّالي أمام الرّئيس الرّوسيّ فلاديمير بوتين ويده المُمسكة بتدفّق الغاز الطّبيعيّ إلى الأوروبيين.
يُراهن الإيرانيّون على أنّ رفع الرّاية البيضاء أمام برد الشّتاء، سيجعلهم شُركاء في هزّ العصا لأوروبا عبر الطّائرات المُسيّرة التي تنهمِر يوميًّا على العاصمة الأوكرانيّة كييف.
لكن هل من السّهل أن ترفَع أوروبا راية الهدنة أو الاستسلام؟
خلفَ القرار الأوروبيّ يكمن القرار الأميركيّ الذي استدعى على عجلٍ الرّئيس الأوكراني فلوديمير زيلنسكي قبل وقوع الكارثة على أبواب فصل الشّتاء. لم يُعلَم بعد ماذا طلبَت أميركا من زيلنسكي، لكنّ الأكيد أنّ النّظام الإيرانيّ سيرفع زخم مُحرّكات الضّغط على الغربيين في المُقبل من الأيّام.
على أوروبا أن تنتظر المزيد من الأجساد الإيرانيّة المُعلّقة على منصّات الإعدام. وأن تنتظر انهمار المزيد من الصّواريخ والمُسيّرات الإيرانيّة على كييف، وربّما أبعد. كما عليها أن تترقّب كيف تلعب إيران على عامل الوقت، فيما يسعى الأوروبيّون للعودة إلى الاتفاق النّوويّ بسرعة، كي يسمح لهم الإيرانيّون بمناقشة قضيّة الطّائرات المُسيّرة والصّواريخ البالستيّة.
وفي المسائل المُعقّدة من مياه الخليج العربيّ إلى مشارف أوروبا، بالطّبع هُناك للحكاية بقيّة...