كتب بديع يونس في جسور:
يتبدّى العجب من تصرفات الإدارة الأميركية على الصعيد الدولي، إذ يفترض الأميركيون أنه بمجرد أن يعلنوا أو يجاهروا بموقف دولي ما، فإنه على حلفائهم وشركائهم الإلتفاف حوله وتأييده كما هو، من دون أي تمايز أو أي هامش خاص تفرضه الجغرافيا السياسية. حتى أن أصواتاً علت من بعض المحللين والمتابعين في دولة "العم سام" تنعت هذه السياسة الحادة الضيّقة "بنرجسية واشنطن الاستراتيجية"، فتولت مجلة "فورين أفيرز" إبراز هذه الآراء على صفحات أعدادها.
فعند كل موقف تتخذه الإدارة الأميركية حول أي مستجد دولي، تستطلع واشنطن مواقف شركائها وحلفائها وتتعامل مع هذه المواقف كاختبار عملي لمدى ولاء هذه الدول للولايات المتحدة. تنطلق الشعارات الأميركية لتعتبر أن "الصراع هو بين الديمقراطيات من جهة، والأنظمة الاستبدادية من ناحية اخرى".
عصيٌ على واشنطن القبول والتسليم أن العالم متعدد الأقطاب، والإقرار بوجود منظمات اقتصادية وسياسية عالمية وإقليمية لم يخلُ العالم منها يوما. فبموازاة الناتو وجد حلف وارسو. ومقابل تجمع روما الاقتصادي نشأ الكوميكون الشرقي. كما أن أوروبا توحدت لتحفظ بطريقة أو بأخرى مكانتها أمام التوسع الاقتصادي الأميركي. أما ما دفع عبد الناصر ونهرو وتيتو لتأسيس "دول عدم الانحياز" فكان عدم الاصطفاف لا مع واشنطن ولا مع من يناهضها. إضافة إلى تجمع الهند وجنوب افريقيا والبرازيل وروسيا والصين ضمن البريكس. وغيرها الكثير من الأمثلة. حتى أنّ الولايات المتحدة نفسها انضوت بتجمعات اقتصادية وأمنية منها مع دول نافتا.
لأسباب داخلية بحتة، تغنّت الإدارات الأميركية المتعاقبة بنظام "القطب الواحد" وسوّقته إعلاميا لتبرز انتصاراتها، ولتمجد العظمة الأميركية وتفوّقها. إلا أنّه على أرض الواقع لم يكن هناك يوما في العالم نظام القطب الواحد، بل قطب متفوق بين الأقطاب. ومن الشواهد على ذلك أنه بعد تفكك الاتحاد السوفياتي وانخفاض مستوى الحرب الباردة كان لا بد لواشنطن من أن تأخذ قوة روسيا بعين الاعتبار للوصول الى اتفاقيتي "سالت"، ومعاهدات "ستارت 1"، لتخفيض الرؤوس النووية، أو إنشاء تحالفات دولية لغزو أفغانستان والعراق. ومن الامثلة البارزة الراهنة تحالف أميركا مع بريطانيا وأستراليا واليابان وفيتنام وإندونيسيا والهند لمواجهة بكين في بحر الصين الجنوبي، وللحد من استفزازات كوريا الشمالية وتماديها في الاختبارات العسكرية.
خطأ الإدارات الأميركية المتعاقبة يكمن في ظنها أنّه على شركائها أن يروا الأمور من منظارها الأميركي. لا بل أكثر من ذلك "من ليس معنا فهو ضدنا، نحن نفصّل والعالم يلبس". تريد منهم أن يقفوا معها تلقائيا بدون مراعاة لمصالحهم أو حاجات بلدانهم وشعوبهم، كما حصل مع السعودية إثر قرار "اوبيك بلاس" عندما اتهمت واشنطن الرياض بالوقوف مع الروس سياسيا ودعم حربها في أوكرانيا، في حين أن المملكة صوتت في جمعيات الأمم المتحدة ضد الحرب الروسية على أوكرانيا وتبرعت بمبلغ ٤٠٠ مليون دولار للشعب الاوكراني.
على واشنطن أن تسعى إلى نهج "أقل نرجسية وأكثر ذكاء وتواضعا" في المسائل العالمية وفي قضايا النظام الدولي. عليها أن تقارب الدول الحليفة والصديقة حول كل ملف على حدة من دون أن تعتبر ان تأييدهم بالمطلق مضمر ومضمون وأكيد، إن كان على حساب مصالح شعوبهم. فلتتذكر واشنطن أنها تمر خلال كل ولاية رئيس جمهورية أو أقله كل 4 سنوات مرة، بفترة تردّد، تتقلب خلالها أولوياتها الخارجية مما يترك شركاءها في حيرة وفي حال من عدم الثقة باستمرارية حلفها معهم في القضايا الأساسية التي تعنيهم، مما يضطرهم للبحث عن علاقات جيدة ومتوازنة مع جميع القوى العظمى في وقت واحد.
هذه العلاقات المتبادلة مع الدول العظمى تمارسها واشنطن ذاتها. ففي خضم الحرب الروسية على أوكرانيا، وتقديم الولايات المتحدة دعمها المتنوع الهائل التاريخي إلى كييف ومساندتها لها بكل الأشكال، استمرت الاتصالات بين واشنطن وموسكو وأسفرت مؤخرا عن تبادل السجناء. كما أنه في الإطار نفسه زارت بعثة أميركية بكين للتحضير لزيارة وزير الخارجية بلينكن إثر اتفاق جو بايدن مع شي بينغ في لقائهما الأخير في قمة العشرين في إندونيسيا على بحث سبل التعاون بين بلديهما. فهل ما يجوز لواشنطن لا يجوز لغيرها؟ّ!
إن تجنب شركاء الولايات المتحدة اختيار طرف واحد دون غيره، وإبداء رغبتهم بالحفاظ على علاقات جيدة مع جميع القوى العظمى في وقت واحد، مرده للسياسة الخارجية الأميركية المترددة والمتقلبة والمتأثرة بالصراع الداخلي ما بين الحزبين الجمهوري والديمقراطي، وتخلي هذه السياسة الخارجية عن شركاء أميركا في القضايا الأساسية التي تهمهم كإشكالية دغدغة ايران وتقديم التنازلات لها على حساب دول الجوار بهدف استمالتها للعودة إلى الاتفاق النووي.
من الصعب وضع الحلفاء أمام خيار العلاقة بدولة واحدة دون غيرها. وليست السعودية فقط، بل مصر وقطر والكويت والبحرين يتطلعون لتنظيم علاقاتهم مع منظمة شنغهاي للتعاون SOC، كما أن المملكة ومصر أبدتا اهتمامهما للانضمام إلى منظمة بريكس.
تحاول هذه الدول الابتعاد عن قيود وعواقب "نظام عالمي ثنائي"، فتفضل أن تكون "متعددة الانحيازات" من خلال تبنيها لعلاقات متنوعة ومتعددة تجنبا لكلفة التنافس بين القوى العظمى على حسابها، ولجني الفوائد لشعوبها. فبعد أن كانت الدول العظمى تسيّر مصالحها على حساب مصالح حلفائها وتقع هذه الدول ضحية للكبار، انتهجت استراتيجية تحميها من ضبابية ورمادية أميركا وروسيا والصين وأوروبا حول قضايا الشرق الاوسط.
فبدلا من بذل الجهد لتقسيم العالم بشكل صارم على غرار الحرب الباردة، المؤدي إلى تجدد التوتر الدولي، والى نظام ثنائي تصطف ضمنه الدول الكبرى والمتوسطة والصغيرة بالطابور الصارم، بات من الأجدى أن تتشكل التحالفات وتتنوع في كل ملف بملفه، وبكل قضية من القضايا بدون أن تتوحد الاصطفافات في بوتقة واحدة وتتوزع على الضفتين بنظام ثنائي.
لا يضر واشنطن أن تستبدل سؤالها المطروح على حلفائها ـ الذي ردده جورج بوش الابن قائلا "من ليس معنا فهو ضدنا"، بطرح مغاير تماما معناه "أيها الحلفاء مع من ستكونون في هذا الملف أو ذاك". فمع نرجسية أميركية أقل، ومع تفهم لهواجس ومصالح الاخرين العالم سيكون أفضل .