لا يختلف اثنان اليوم في لبنان، وحتّى في العالم كلّه أنّ: "البلد مش ماشي". وما وصلنا إليه اليوم هو نتيجة تراكم الأزمات التي نتجت عن فشل النّظام الذي فرضه المجتمع الدّولي على الدّولة التي نشأت في دستور 1926. "فإذا كان الأمر مقصودًا فالخطيئة عظيمة، وإذا كان سهوًا فالخطيئة أعظم" على حدّ ما قال البطريرك الراعي في عظته الأحد. لن نقبل إلا بلبنان الكبير، ولن نُسلِّمَ بما يريدوننا أن نركنَ إليه أي أنّه خطيئة. يجب البحث في كيفيّة استمرار هذا الوطن. ماذا وإلا نكون كمن يطلق رصاصة الإنتحار الوطني.
مؤتمرات وحوارات مطلوبة
تنشط في الآونة الأخيرة المؤتمرات الفدراليّة، وليس آخرها المؤتمر الذي أقامه "المؤتمر الدائم للفدراليّة" تحت عنوان " العقد الجديد، من نظام الطائف إلى النّظام الفدرالي". وذلك يوم السبت الفائت في 21 كانون الثاني/يناير 2023 في مركز لقاء الكائن في الربوة في منطقة المتن، محافظة جبل لبنان. وعلى ما يبدو أنّ هذا المؤتمر لن يكون الأخير إذ تتداعى معظم التجمعات والحركات الناشطة فدراليًّا لعقد لقاءات ومؤتمرات تشرح فيها وجهة نظرها بالنسبة إلى هذا المشروع.
وكان الناشط السياسي أيّاد البستاني قد تقدّم بمشروع دستور فدرالي للبطريرك الراعي في 18 نيسان/أبريل الماضي أبرز ما حمله هو توزيع لبنان على فسيفساء تتشكّل من الهويات الإثنية الدينية على اختلاف تنوّعها فضمّت 781 مدينة وقرية مسيحية، 353 شيعية، 272 سنية، 126 درزية، 101 منطقة لا أكثريّة فيها.
وتتعدّد الطروحات الفدرالية منها ما اقتُرِحَ على أساس الجغرافيا ومنها ما اعتمد الديموغرافيا. لكن بالنظر إلى الإشكاليّة اللبنانية، وطبيعة التركيبة المجتمعيّة للبنان، قد تكون الفدرالية الإثنو- ديموغرافيّة - الجغرافيّة هي الأكثر قربًا إلى الواقع اللبناني.
أمّا النائب ملحم رياشي فطرح في إحدى مقالاته عام 2020 في نقاش مع احد الصحافيين الفدرالية الجغرافية كما هو نظام الامارات العربية المتحدة او ألمانيا الاتحادية أو الولايات المتحدة الاميركية، ولكن بما يسهل اسقاطه على لبنان، "فدرالية لا تقسِّم المناطق بحسب الطوائف، بل توزّع القوى على الاقضية وتحوّلها الى محافظات ذات صلاحيات واسعة وصولاً الى بعض التشريعات الداخلية التي تخصها." وغيرها من المشاريع الفدرالية التي تنسحب على التجربة اللبنانية. وفي هذا السياق يجب مقاربة هذا الطرح من وجهة نظر علميّة محضة، ولا من وجهة نظر سياسيّة فئويّة. فبنهاية المطاف هذا النّظام سينعكس على اللّبنانيّين كلّهم. وهو لن يكون لفئة واحدة. لكن، حذارِ أن يتمّ التفريط بما حقّقه الطائف من حيث نهائيّة الكيان ووحدة اللبنانيين واحترام التعدّديّة اللبنانيّة. لأنّ ما توصّل إليه اللبنانيّون بعد مأساة الحرب الأهليّة يجب أن يبقى من الثوابت.
الثوابت الكيانيّة والمطلوب واحد
الكيانيّة اللبنانيّة ثابتة لن تتبدّل. ولبنان رسالة الحرّيّة الذي يجسّد الصيغة "اليوحنّويّة" (نسبة إلى البابا يوحنّا بولس الثاني الذي طرح فكرة لبنان الرسالة في العام 1997) هو الثابت الذي يجب ألا يتغيّر. هذه هي الصيغة التي وجب صونها والدّفاع عنها لأنّها تناقض بوجوديّتها فكرة الوطن العنصري التي برّرها اليهودي صمويل هنتغتون في كتابه " صراع الحضارات" في العام 1996.
المطلوب واحد: تطوير النّظام بشكل يحفظ هذه الصيغة بالذات. والفدراليّة هي من أفضل الأنظمة لإدارة التعدّديّة في المجتمعات المركبة مثل المجتمع اللبناني. وأي نظام قاعدته لامركزيّة يكون الأفضل لإدارة شؤون النّاس. فلبنان الصيغة المركزيّة سقطت بالتجربة والفعل، لا بالقول فحسب. من هذه الزاوية يجب النّظر إلى أيّ مشروع يطرَح.
مشكلة لبنان أنّ أيّ طرح يتمّ التداول به من وجهة نظر سياسيّة وليس علميّة. والطرح الفدرالي أوّل مَن طرحه الرئيس إميل إدّه. ومن ثمّ عاد وطرح من قبل الرئيس شمعون في خمسينيّات القرن الماضي على أثر ثورة 1958؛ ليعود ويطرح بقوّة من قبل الجبهة اللبنانيّة في فترة الحرب الأهليّة.
ورافضو هذا الطرح هم الذين تبنّوا طرح "العروبة" التي تذيب الهويّة اللبنانيّة وليس "العروبة" التي تمّ تثبيتها في الطائف والتي إن طُبِّقَت اللامركزيّة الموسّعة التي نصّ عليها هذا الاتّفاق تُصانُ الهويات الثقافيّة المتعدّدة في كنف هذه الهوية الكيانيّة الوطنيّة الجامعة.
والفدراليّة بالذات هي التي تحفظ هذه التعدّديّة الهويّاتيّة الحضاريّة أكثر من غيرها من الأنظمة اللامركزيّة التي قد تكون فقط محصورة في الشؤون الإداريّة. وذلك لأنّ هذا النّظم ببعده السياسي كفيل بحلّ الإشكاليّة الهويّاتيّة اللبنانيّة التي هي أساس الأزمة اللبنانيّة وعلّة وجود الكيانيّة اللبنانيّة.
خارطة الطريق
علينا كلبنانيّين وطنيّين ألا نستجلب أيّ خارج ليفرض علينا أيّ نظام جديد يلائم مصالحه الخاصّة. جلَّ ما يجب أن نقوم به هو العمل الدؤوب لاستعادة انتظام عمل المؤسّسات وأوّلها مؤسسة رئاسة الجمهوريّة من خلال انتخاب المجلس النيابي الرئيس القادر والجريء والإصلاحي والإنقاذي الذي يجب أن يفرض تطبيق النّظام، ويطرح كلّ الصيغ على بساط البحث تحت سقف المؤسسات اللبنانيّة فقط لا غير.
وبذلك تكون الفدراليّة أو الحياد أو أيّ نظام آخر قد يُطرح هو لتحديث النّظام اللبناني السياسي والحفاظ على الصيغة اللبنانيّة. ومَن يرفض هذه المسألة يعني أنّه يريد لبنان المأزوم الذي نعيشه اليوم. وهذا اللبنان بالذات بات غير قابل للحياة في ظلّ وجود منظمة مسلّحة خاطفة للدولة وراهنة مصلحة النّاس أجمعين لمصلحة انتمائها الأيديولوجي. وبالتالي لا يمكن لمنظّمة حزب الله ومحور الممانعة أن يستمرّوا في تعطيل الدّولة إلا إذا كان مشروعهم الحقيقي الذي يضمرونه ولا يعلنوه هو دولة على قياسهم.
بذلك هم يدفعون نحو التقسيم ويحاضرون في رفضه، ويشيطنون كلّ مَن يطرح مجرّد فكرة لتطوير النّظام والحفاظ على الصيغة. يبقى أصدق توصيف للكيانية اللبنانية وهو التوصيف الذي استخدمه النائب ملحم رياشي عن شوبنهاور: ”في ليلة شتاءٍ ثلجية، حاول قطيع من النيص (القنافذ) الاقتراب من بعضهم البعض لتحاشي البرد القارس، لكنهم عجزوا بسبب قساوة أشواكهم فابتعدوا، ثم لشدة البرد حاولوا من جديد وكلما اشتد البرد حاولوا أكثر، وهكذا إلى أن وجد النيص مسافةً مناسبة تقيهم البرد وتحميهم من أشواكهم”.
فلنبحث عن "المسافة المناسبة الآمنة" ليبقى لبنان قبل أن ينجح محور الممانعة بالتقيّة السياسيّة التي يمارسها بالوصول إلى ما لا يريده أحرار هذا الوطن.