كتب بديع يونس في جسور:
عندما سعى الرّئيس الفرنسي حينها جاك شيراك مع الدول الكبرى لإقرار مجلس الأمن "المحكمة الخاصة بلبنان"، اشترطت روسيا شرطا لم تفهم أبعاده في ذاك الوقت. قبِل الجميع آنذاك ـ بمن فيهم أولياء الدم ـ بالشرط الروسي وبـ"التسوية" لكي تبصر المحكمة النور، ومنعًا من ممارسة موسكو حق النقض في مجلس الأمن، وبهدف الوصول إلى جلاء الحقيقة ومعرفة من اغتال رئيس الحكومة اللبنانية الأسبق رفيق الحريري.
عندما سعى الرّئيس الفرنسي حينها جاك شيراك مع الدول الكبرى لإقرار مجلس الأمن "المحكمة الخاصة بلبنان"، اشترطت روسيا شرطا لم تفهم أبعاده في ذاك الوقت. قبِل الجميع آنذاك ـ بمن فيهم أولياء الدم ـ بالشرط الروسي وبـ"التسوية" لكي تبصر المحكمة النور، ومنعًا من ممارسة موسكو حق النقض في مجلس الأمن، وبهدف الوصول إلى جلاء الحقيقة ومعرفة من اغتال رئيس الحكومة اللبنانية الأسبق رفيق الحريري.
اشترطت روسيا لتمرير "المحكمة الدولية الخاصة بلبنان" أن يتضمن كل من القرار الأممي، وقانون المحكمة، ونظامها الداخلي، نصًا واضحًا صريحًا يمنع عنها صلاحية محاكمة الرؤساء بل حفظ حصانتهم، كما يمنع عليها محاكمة الكيانات السياسية بما فيها الأحزاب والاكتفاء بصلاحية محاكمة الأفراد من دون الدول ورؤسائها. فبعد عدة سنوات من التحقيقات والمحاكمة اقتصر الحكم على الأفراد من دون توجيه اتهام إلى حزب الله. فأطلق على القرار الصادر عن المحكمة الدولية تسمية "حكم سليم عياش" أو تهكما "حكم تلفن عياش".
اليوم، بعد أن ارتكب بوتين أبشع الفظائع والجرائم في كل مدينة وقرية أوكرانيّة، سواء بواسطة الطيران والقاذفات البعيدة المدى، أو بالصواريخ العابرة والفرط صوتية من البحر الأسود وبحر قزوين، أو بالمسيرات الإيرانية، أو بالمدفعية مستهدفة المدنيين بجرائم موصوفة تنطبق عليها "جرائم العدوان والحرب" والجرائم ضد الانسانية، بتنا نعلم الخلفية التي تحكمت ببوتين وكيف كان ينظر إلى المحاكم الدولية وكيفية الإفلات منها ومن الخضوع لتحقيقاتها، ولاحقًا من أحكامها وقراراتها القضائية. فعندما هدد باستعمال الفيتو في مجلس الأمن، حمى بوتين حزب الله وما ارتكبه في جريمة العصر عام 2005، ليتجرّأ الحزب لاحقا على استيراد آلاف الأطنان من الأمونيوم وتخزينها في مرفأ بيروت التي أدت إلى هدم نصف العاصمة اللبنانية في 4 آب/أغسطس 2020.
تطورت العدالة الدولية منذ محاكمات نورنبرغ وطوكيو وروندا وسيراليون ودول يوغوسلافيا السابقة، وتم تحويل عشر رؤساء أمام المحاكم بعد إسقاط الحصانة عنهم، وصدور أحكام وجاهية وغيابية بحقهم، أبرزها محكمة سيراليون في جرائم رئيس ليبيريا السابق تشارلز تايلور المتهم بارتكاب جرائم ضد الانسانية في البلد المجاور، وملاحقة عمر البشير الرئيس السابق للسودان.
بات بوتين على دراية كافية بما آلت اليه العدالة الدولية من كفاءة وقدرة، لا سيما في حال أدت تطورات الميدان العسكرية لمزيد من الخسائر وتقهقر الجيش الروسي وتراجعه وعدم إمكانيته تحقيق الأهداف التي سعى اليها يوم 24 شباط/فبراير 2022.
يعلم بوتين أن حمايته لإيران في ارتكاباتها ضد شعبها المنتفض وحمايته لحزب الله فيما يرتكبه في لبنان وسوريا والعراق واليمن، ما هو إلا حماية لنفسه ولشخصه من أي محكمة مستقبلية قد تشكل خصيصًا لمحاكمة جرائمه وتسقط عنه حصانته وتدينه بما ارتكب.
اقترحت رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين إنشاء محكمة خاصة في إحدى دول الاتحاد الاوروبي مدعومة من الأمم المتحدة يمكنها أن تحاكم روسيا بـ"جريمة العدوان"، على أن تترك جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية للمحكمة الجنائية الدولية في لاهاي وفق معاهدة روما (1999) التي شكلت الأساس القانوني لعمل المحكمة ودخلت حيز التنفيذ في 2002.
غير أن روسيا التي كانت قد وقعت على "اتفاقية روما" ـ وإثر خشيتها من قرار المحكمة الذي اعتبر أن ضم روسيا لشبه جزيرة القرم في 2014 هو "عمل عدواني" ـ انسحبت من الاتفاقية عام 2016، ليبقى السبيل الوحيد لمحاكمة بوتين وروسيا، على "جرائم الحرب والحرب ضد الإنسانية" هو فقط من خلال قرار يصدر عن مجلس الأمن الذي ستمارس فيه موسكو حق النقض لمنع صدور أي قرار ضدها.
وفيما عمل بوتين على الخلاص من محاكمة دولية ضده بشأن "جرائم الحرب"، إلا أنه قد يواجه "جرائم العدوان" إذا نجح الأوروبيون بذلك وبغطاء أممي. وحتى ذلك الحين، فإنّ عزلته الدولية التي قرّبته أكثر من إيران وحزب الله قد تؤدي لعزلة داخلية يتشارك فيها مصير "حلفائه". وإذا نجحت استراتيجية هذا التحالف والتعاون بالبطش والحرب لإنقاذهم لحين، يكفي أن يسقطوا داخليًا لتطالهم جميعًا نقمة شعبهم والاستدراج الدولي لمحاكمتهم.
أصبح من اليقين أن فتوحات ونفوذ الخارج لا تحمي نظام الملالي ولا حزب الله بوجه استحقاقات الداخل. كما أنه إذا حاول بوتين تعزيز حماية شخصه وعدم ملاحقته من خلال تسوية دبلوماسية، فإن أوكرانيا (ومن خلفها اوروبا) ليست مستعدة للتنازل عن أي شيء، لا بل اشترطت كييف عدم الإقدام على التفاوض في حال استمرّ بوتين في الحكم. كذلك، عبّر الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في تصريحات أدلى بها في قمة الأردن الأخيرة، أشار فيها إلى تعذر حل مشكلات لبنان والعراق وسوريا من دون تقليص الدور الإقليمي الإيراني.
بالخلاصة، إذا نجحت روسيا – بوتين لبرهة من الوقت الإفلات من محاكم دولية، فإنّ العزلة ستستدرج خلاصًا داخليًا منه يومًا، كذلك الحال بالنسبة لطهران وحزب الله. تفلّت موسكو وطهران وحزب الله من المساءلة والعقاب لم يعد أمرًا سهلا، إلا إذا تلكأ المجتمع الدولي بالوقوف إلى جانب شعوب هذه الدول، من موسكو إلى طهران فلبنان ودعموهم للتحرر من قبضة الثلاث.