منذُ سنواتٍ عدة وبعض خبراء الاوبئة يحذرون ولو بشكل خجول ومتحفظ من فوضوية دخول الزائرين بأرقام مليونية تجاوزت الـ 15 مليون نسمة الى مدينة كربلاء في ليالي زيارة الاربعين (زيارة لإحياء ذكرى مرور اربعين يوما على استشهاد الإمام الحسين ثالث ائمة الشيعة في العاشر من محرم).
تأتي هذه التحفظات نتيجة عدم وجود إجراءات صحية صارمة تطبق على السواح الدينيين خلال هذه الفترة الخاصة، حيث لا توجد اي ضوابط صحية كالتي تجري في المملكة العربية السعودية أثناء الحج والعمرة، ولا توجد أي لقاحات خاصة لمنع انتشار الأوبئة ومنها الأنفلونزا التي تأتي عبر الزائرين من مختلف البلدان خلال هذه الزيارات المليونية، ولا توجد كذلك أي ضوابط لدخول عدد مُعيّن من الزائرين كما يجري ذلك ايضاً في الحج والعمرة عندما يتم تحديد عدد مُعين من الحجيج لهذه المناسك رغم ان حجيج بيت الله يأتون من كافة أنحاء العالم ومن مختلف الطوائف الاسلامية ولا يقتصر على طائفةٍ ما !
الانفلونزا الوافدة
منذ ارتفاع معدلات وصول الزوار إلى مدينة كربلاء والمقاصد المقدسة الأخرى، لوحظ ازديادًا في انتشار الفيروسات بعد كل زيارة جماعية تجاوزت المليون زائر. يعزى هذا الارتفاع إلى تطور السلالات الفيروسية بينما يجتمع الملايين من الأفراد في منطقة جغرافية ضيقة مثل مدينة كربلاء أو المراقد المقدسة ذاتها. هذه المناطق غالبًا تكون محدودة المساحة، ويتجمع فيها الزوار لأداء طقوسهم الدينية بانتظام.
معظم هذه الفيروسات أو حالات الإنفلونزا تنتقل مع السياح القادمين من عدة دول، وتشمل بعض هذه الدول الهند وباكستان وأفغانستان وحتى إيران. وهذا يعزى جزئيًا إلى الأوضاع الصحية الهشة في تلك البلدان نتيجة للتحديات الاقتصادية والاجتماعية التي تواجهها. يتسبب الفقر ونقص الموارد المالية في هذه البلدان في تفاقم المشاكل الصحية. وبعض الدول تعاني أيضًا من تأثيرات عقوبات اقتصادية تفرض عليها، مما يجعل الوضع الصحي أكثر تعقيدًا.
هذه الدول، وغيرها من الدول الخليجية والعربية، لا تجري فحوصات على سائحيها القادمين إلى العراق في إطار مشهد ديني يشبه الحج والعمرة، والذي في الواقع يتجاوز بكثير أعداد الحجيج والمعتمرين. لذلك، لماذا لا تتخذ هذه الدول خطوة أولى بفحص هؤلاء المسافرين، على غرار ما يتم فيما يتعلق بالحج والعمرة في المملكة العربية السعودية؟ ولماذا لا تقوم الحكومة العراقية بتطبيق شروط محددة على هذه الدول قبل دخول سائحيها، مطالبة إياها بإجراء فحوصات صحية وتطعيمات ضرورية؟
في العراق كذلك لا وجود لأي فحص ٍ صحي ولقاحات لدرء أخطار هذه الاوبئة عند زيارة السائح الديني، بمعنى ان الخطأ والتقصير مزدوج عند الحكومات العراقية المتعاقبة التي أهملت هذا الجانب المهم لآثار هذا التجمع البشري الهائل في مدينة كربلاء لعدة ليال وهو الأكبر في العالم على الإطلاق ضمن رقعة جغرافية صغيرة فيها اصلاً ضعف وتقصير خدماتي وصحي !
كورونا: التحدي الأصعب
في عام 2020 عندما داهمنا خطر وباء فيروس كورونا، ازداد الحديث عن ضرورة وجود نظام حماية من هذه الاوبئة في المجتمعات كافة، شاهدنا لأول مرة في حياتنا اليومية ان الإنسان الطبيعي غير المصاب بمرض ما، يرتدي كمامة في الشارع ويتجنب مصافحة و تقبيل وعناق الناس، هذه الثقافة الجديدة اختفت من اجندات الناس مع انتهاء خطر كورونا بطبيعة الحال.
غير أن الغريب في الأمر هو عدم اكتراث القائمين على الجانب الصحي في العراق، بهذا الملف الخطير بجانب ملف الاوبئة الاخرى القريبة من كورونا، وذلك بعدم اتخاذ أي إجراءات صحية كفيلة بمنع انتشار هذا الوباء بسبب توافد الملايين من داخل وخارج العراق,
لا فحص للزائر العراقي، ولا فحص للزائر الأجنبي في بلده وبعد دخوله العراق، رغم ان امتحان كورونا كان قاسٍ على العالم اجمع وبلادنا كانت في مقدمة البلدان التي خسرت ارواح كثيرة لصالح الوباء وتداعياته المستمرة لغاية اليوم !
زيارة الاربعين
شهد موسم زيارة الأربعين هذا العام تحقيق رقماً قياسياً بتوافد الزوار إلى مدينة كربلاء، حيث قدم قرابة 23 مليون شخص من داخل العراق ومن مختلف الدول الإسلامية، ومن بينهم حوالي 6 ملايين زائر من خارج العراق. وبعد انتهاء موسم الزيارة، بدأ العديد من أهالي كربلاء يشكون مرة أخرى من ارتفاع معدلات الإصابة بأمراض الأنفلونزا، والتي يبدو أنها بالواقع هي إصابات بفيروس كورونا ومتغيراته المتعددة. ومن الواضح أن المتحور الحالي للفيروس يعتبر تحديًا كبيرًا، خاصة بالنسبة لكبار السن الذين يظهرون تأثيرات أشد جلبة عند الإصابة به.
للأسف، يبدو أن مدينة كربلاء شهدت ازديادًا كبيرًا في حالات الإصابة بعد انتهاء موسم الزيارة، مما أدى إلى اكتظاظ كبير في ردهات الحالات الطارئة بالمستشفيات. وهذا الضغط على النظام الصحي ليس فقط يؤثر على المرضى، بل يمكن أن يؤثر أيضًا على الكوادر الطبية. فقد تعرض بعض أفراد الكادر الطبي للإصابة بالفيروس نتيجة للاختلاط مع المرضى، وكانوا مضطرين للتعامل مع الإرهاق الشديد بسبب الأعداد الكبيرة للمصابين الذين تم التعامل معهم في المستشفيات.
وفي تصريح خاص لـ"جسور" قال أحد الاطباء الذي رفض الكشف عن اسمه : "ان الحالات الطارئة بسبب ازدياد معدلات الإصابة بالأنفلونزا هي الأكبر خلال هذه الفترة والسبب هو انتقال بعض الأمراض المُعدية من المسافرين الوافدين لكربلاء من داخل وخارج العراق" .
هذا الطبيب الذي كان ينتقل من مريض لمريض في ردهة الطوارئ ولم يكن له متسع من الوقت للحديث معنا بسبب انشغاله برعاية المرضى، انهى حديثه بالقول (ان لم تعامل الدول الاسلامية كربلاء بنفس تعاملها مع مكة المكرمة من حيث اتخاذ الإجراءات الصحية لمواطنيها قبل سفرهم العراق، فأن الأوبئة والأمراض المعدية ستزداد سنة بعد سنة).
الحل الوحيد
لم يبق حل لهذه المشكلة الصحية التي تزداد، إلا بأن تكون الدولة العراقية شجاعة على الأقل هذه المرة، وذلك بفرض شروط على الدول التي يأتي منها هؤلاء السواح، وفرض ضوابط صحية مُسبقة قبل ارسالهم العراق من اجل الحفاظ على صحة الشعب العراقي و كذلك صحة رعايا هذه الدول، هذا الإجراء هو بالضبط ما يجري في المملكة العربية السعودية والتي تفرض الرقابة والإجراءات الصحية حتى على مواطنيها داخل المملكة الذاهبين للحج والعمرة !
فلماذا اذاً لا يتم وضع خطة صحية متكاملة لدرء هذا الخطر الكبير على صحة المواطن العراقي الذي يعاني اصلاً ما يعاني من أمراض أخرى؟
يُذكر ان لجنة الصحة النيابية العراقية قد نفت وجود اي حالات لـ "المتحور كورونا" في العراق، بينما وزارة الصحة العراقية حذرت منه بعد ذلك بيومين، في حين ان مستشفيات مدينة كربلاء وبعض المدن العراقية الاخرى تشكو من قدوم الكثير من المصابين بالانفلونزا او هذا المتحور المتهور فعلاً !!!