ممّا لا شكّ فيه أنّ المنطقة برمّتها قادمة على تغييرات استراتيجيّة انطلاقًا من الحراك الجيو -إقتصادي الذي تبدّى بعد قمّة ال G20 التي انعقدت في نيودلهي في التاسع والعاشر من أيلول المنصرم. وفيما يرجع بعض المحلّلين أنّ دوافع حرب غزّة لم تكن فقط ردّة فعل على عمليّة السابع من اوكتوبر، إنّما هي الذريعة للسير بتنفيذ الأجندة الجيو-إقتصاديّة لإسرائيل، التي تبدأ من طريق بهارات وقد لاتنتهي بقناة بن غوريون.
وفي هذا السياق بدأ الحديث عن المنطقة برمّتها ما بعد حماس وحرب غزّة. ولاسيّما في الميدان العراقي حيث تتسارع الأحداث السياسيّة، وليس آخرها القرار الذي صدر عن المحكمة الاتّحاديّة الثلاثاء الماضي والذي قضى بإقالة رئيس مجلس النوّاب العراقي محمد الحلبوسي، بسبب دعوى تزوير أوراق رسمية (طلب استقالة سابق باسمه) تقدم بها ضده النائب ليث الدليمي، بهدف طرده من المؤسسة التشريعية، حيث تبعتها استقالة 3 وزراء من الحكومة العراقية من حصة "حزب تقدم" الذي يتزعمه الحلبوسي، وهم وزراء التخطيط محمد تميم والثقافة أحمد البدراني والصناعة خالد بتال. وهذا ما رأى فيه بعض الخبراء حالة سلبيّة ستزيد من تعقيدات المشهد السياسي في الساحة العراقية، ولاسيّما وأنّ العراق على أبواب انتخابات مجالس المحافظات المقررة في 18 ديسمبر القادم.
تأثيرات متبادَلة في القضيّة الفلسطينيّة
"العراق بعد 2003 بات يتأثّر بالكثير من المجريات السياسية التي تحدث في الاقليم، والسبب الرئيس في ذلك يعود إلى أنّ الحكومات العراقية المتعاقبة تدار من قبل ميليشيات تابعة للحرس الثوري في إيران ." هذا ما قاله الصحفي ياسر الحمداني في تصريحه لـ "جسور" حيث يرى أنّ "الأحداث التي تدور في غزّة أو سوريا او لبنان أو اليمن تؤثّر مباشرة في العراق."
وفي الموضوع الفلسطيني، يرى الباحث في الشأن العراقي مجاهد الطائي أنّ "الحكومة العراقية وحلفاءها ضيقوا كثيرًا على اللاجئين الفلسطينيين في العراق، وذلك عبر إجراءات ظالمة أجبرت الكثير منهم على الرحيل حيث تعطلت حياتهم بسبب المضايقات، كل ذلك رغم المزاعم بدعم فلسطين والشعب الفلسطيني وقضيته العادلة."
وفي مرحلة ما بعد حماس يعتقد الطائي انّه "من المبكر جدا الحديث عن حسم الملف وانتهاء الحرب، فلن يحدث ذلك وقد يأخذ عامًا أو ربّما عامين كحد أقصى، ليتم تحديد المعطيات الجديدة التي لا تخلو من مفاجآت متوقعة."
أمّا ياسر الحمداني فيتساءل أنّ " مَن سيخلف مَن في حكم غزة بعد حماس؟ " ويرى الحمداني أنّ "تلك الفصائل الولائية مستمرة في قصف المصالح الامريكيّة والتي أعلنت بصراحه عن مسؤليتها عن تلك الهجمات التي تحاول من خلالها الضغط على اسرائيل لتخفيف الهجمات على غزة.
السوداني يناور ما بين إيران وأميركا
ويعتقد الحمداني أنّ "هذا الأمر هو الذي أحرج حكومة السوداني الذي يحاول لعب دور الوسيط مابين أمريكا وإيران من جهة، ومابين استقرار الوضع الأمني والسياسي داخليًا من جهة اخرى، في محاولة منه لتحييد تلك الفصائل للكفّ عن هجماتها المتكرّرة". فربّما ذلك قد يكون لأنّ الساسة العراقيّين الموالين للنظام الإيراني يدركون جيّدًا مدى المصلحة الايرانيّة في هذا الصراع الكبير: والتي على ما يبدو انّها لن تكون أهمّ من القضيّة الفلسطينيّة بالنسبة إلى الإيرانيّين أنفسهم.
الإشارة إلى أنّ السوادني بعد زيارة استمرّت عدّة ساعات لطهران، عقد فور عودته إلى بغداد لقاء سريعًا في منزل سلفه رئيس الوزراء الأسبق حيدر العبادي لأقطاب "الإطار التنسيقي". ومكان هذا اللقاء هو دلالة واضحة في محاولة من السوداني لكسب ودّ الإطاريّين، ولكن مع الأخذ بعين الاعتبار التحذيرات الأميركيّة التي كان قد سمعها من لقائه مع بلينكن من جهة، ومع المرشد الإيراني من جهة أخرى، الذي حدّد رأي إيران من تحذيرات أميركا، وما قد يكون الرّدّ الفعل الإيراني في القليل القادم من الأيّام. مع العلم أنّ التنسيقيين الذين التقاهم السوداني هم: زعيم عصائب أهل الحق قيس الخزعلي وقائد كتائب سيد الشهداء أبو آلاء الولائي وزعيم تحالف الفتح وفيلق بدر.
موقف متناقض من دعم العراق للقضيّة الفلسطينيّة
فيما يرى بعض المحلّلين المقرّبين من الإطار التنسيقي أمثال الدّكتور عائد الهلالي " أن دعم العراق لم يأتِ منحازًا لجهة دون أخرى، أو لفصيل دون آخر. " لاحظًا الهلالي "أنّ حكومة البعث السابقة عملت في فترة معينة، ولاسيّما في أواخر حكمها على تبني ودعم بعض الجهات لمصالح ضيقة."
لكنّ الآن يقارب الهلالي الموضوع من وجهة نظر مختلفة تمامًا حيث يرى أنّ دعم القضيّة الفلسطينيّة هو "من منطلق المسؤولية الدينية والقومية، ولاعتقاد راسخ أن هذه القضية هي قضية العرب الكبرى، وقضية المسلمين في جميع أصقاع الأرض." فبالنسبة إليه "إنّ العراق اليوم عندما يدعم الحق الفلسطيني لا ينطلق من منطلق الوصاية كما تفعل بعض الحكومات العربية والإسلامية، ولكنه يدرك تماما أن هنالك شعب قد صودرت أراضيه، وحقوقه تُنتَهَك في كل يوم."
من هذا المنطلق، يعلّل الهلالي الموقف الداعم للقضيّة الفلسطينيّة الحازم ضدّ أي نوع من هذه الممارسات، حيث يرى أنّ "من شأنها أن تقوّض الحقّ الفلسطيني، وتستبيح مقدساته وتمارس أبشع الممارسات ضد أبنائه من قتل وتهجير وحصار أو تسمح بتصفية القضية الفلسطينية." ويختم الهلالي موقفه معتبرًا أن "موقف العراق كما كان ولا يزال، يعتقد أن مَن يقرر شكل الدولة والنظام السياسي وقيادة الدولة الفلسطينية هم الفلسطينيون أنفسهم . فهم الذين يقرّرون ويختارون مَن يرونه الأفضل لمستقبل بلادهم."
دعم بأصابع إيرانيّة
أمّا ياسر الحمداني فيذكّر بإعلان حكومة بغداد عن " تقديم الدعم المالي والمساعدات العينيّة لاهالي غزة، وكذلك استمرار الحكومة العراقيّة بالمطالبة برفع الحصار عن غزة، والكف عن المجازر التي تحدث كل يوم." ويلحظ الحمداني في حديثه لـ "جسور " دور خطباء الدين الذين صدحت حناجرهم بالدعاء لأهل غزّة، إضافة إلى التعاطف الشعبي والحكومي مع القضيّة الفلسطينيّة بعيون عراقية.
ولا يفرّق الحمداني بين هذا "الدعم الذي لم يكن بمعزل عن دعم السلطة الفلسطينيّة من جهة، ودعم حركة حماس من جهة اخرى." ويوضح ذلك مستذكرًا إعلان "عدد من الفصائل العراقيّة المسلّحة عن دعمها لحركة حماس." ويلحظ الحمداني أنّ هذا الدعم "لا يخلو كونه يحمل بصمات إيرانية حيث إنّ الفصائل الولائيّة التي أعلنت دعمها يعتقد انّها أذرع لإيران."
ويعلّل الحمداني نظريّته هذه خاتمًا لأنّ " هذه الفصائل نفسها مشاركة سياسيًّا في الحكومة العراقية، ولديها ممثلين فيها، وخير دليل على ذلك هو استهداف تلك الفصائل عدد من القواعد الامريكيّة في مطار إربيل وقاعدة الحرير، وقصف قاعدة عين الاسد، وعدد من الارتال الاميركيّة."