على صفحات عربية تنشتر مقاطع مجتزأة من تصريحات لوزير الخارجية ورئيس الوزراء الفرنسي السابق دومينيك دوفيلبان. في هذه المقاطع تبرز تصريحات دوفيلبان المحذرة من نتائج الخيار العسكري الإسرائيلي على السلام حول العالم ودعوته "للعدالة التي وحدها تحقق الأمن والسلام".
ليست هذه المواقف غريبة عن رئيس الديبلوماسية الفرنسية السابق الذي اشتهر بكلمته في الأمم المتحدة في العام 2003 قبيل الغزو الأميركي للعراق. وهي كلمة استدعت تصفيقاً حاراً من الحضور، بل وتحولت إلى فيلم سينمائي بعنوان "كي دورسيه". ولطالما كان دوفيلبان ميالاً للغة الديبلوماسية ورافضاً للخيارات العسكرية، واعتبر رمز الـ"لا" الفرنسية بوجه الولايات المتحدة بعد رفض فرنسا للحرب على العراق.
في كلمته الشهيرة يومها، رأى دوفيلبان أن لا مبرر لاستخدام القوة، وأن الحرب على العراق ستسبب صدعاً بين المجتمعات وتغذي الإرهاب. لم يمر على غزو العراق فترة قصيرة حتى صحّت رؤية دوفيلبان. في العام 2005 عينه الرئيس الفرنسي جاك شيراك رئيسا للحكومة، واستمر في منصبه حتى العام 2007. في العام 2012 حاول دوفيلبان الترشح للانتخابات الرئاسية الفرنسية ومنافسة غريمه رئيس الجمهورية في حينها، نيكولا ساركوزي، لكنه فشل في الحصول على الأصوات اللازمة للترشح.
ويرى محللون أن "الإيغو" الذي يتمتع به السياسي البرجوازي، وعدم قدرته على التوجه لعامة الشعب وعلاقته بالنواب التي لم تكن جيدة شكلت عائقاً أمام تقدمه أكثر في الحياة السياسية.
اليوم يبرز دوفيلبان في مقابلات إعلامية ينبه فيها من تداعيات الحرب الإسرائيلية على مستقبل كل الدول. ينقل الانتقادات التي تطال الديبلوماسية الغربية والتي يسمعها خلال جولاته حول العالم. يحاول أن يشكل صوت العقل بمواجهة السياسات الانفعالية لقادة الدول ويحذّر مما يصفه بسعي إسرائيل للانتقام. تنطلق مواقف دوفيلبان من التفاته إلى الصدع الذي سيسببه التعاطي مع الحرب على غزة بين بلاد الشمال والجنوب، وإلى خطر تداعيات هذا الصراع على البلدان الغربية ولاسيما فرنسا. وهو الذي قال: "فلنأخذ بعين الاعتبار هشاشة العالم الذي نعيش فيه"
منذ بدء الحرب الإسرائيلية على غزة تنتشر مقاطع مجتزأة من تصريحات لدوفيلبان، بعضها ترجم إلى العربية وانتشر على مواقع التواصل الاجتماعي. من بين تصريحات وزير الخارجية السابق دعوته إلى منع بنيامين نتنياهو من مواصلة منطقه الانتحاري الذي "سيجعل إسرائيل دولة محاصرة"، معتبراً أن الأمر يتطلب شجاعة.
فوفق السياسي والشاعر الفرنسي "سياسة الأمن لا تتحقق بالقوة، القوة هي شعار الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة بينما لا تسمح القوة بضمان أمان شعب. هذا ما على جميع الإسرائيليين فهمه اليوم". ويرى أن خيار الحكومة الإسرائيلية وتحديداً منذ السابع من أكتوبر هو الاعتماد على القوة مضيفاً "لا القوة ولا الانتقام يؤمنان الأمن والسلام. ما يضمن الأمن والسلام هو العدالة والعدالة غائبة".
في تصريحاته لا ينحاز دوفيلبان لحماس، بل يدين فعلها ويصفه بالبربرية. لكنه يعيد الحديث إلى ما قبل السابع من أكتوبر، تاريخ تبني الحركة الفلسطينية لأسر وقتل إسرائيليين. يتحدث عن ظروف الحصار على غزة "السجن المفتوح على السماء"، ويعتبر أنها ظروف كفيلة بخلق الجحيم على الأرض. ويحمل المسؤولية عما يجري لجميع الدول التي تجاهلت غزة والقضية الفلسطينية "واعتقدت أنها ستنسى".
من يتابع دوفيلبان منذ زمن حكم شيراك لا يستغرب من مواقفه هذه. فلطالما كان مقرباً من الرئيس الفرنسي الراحل جاك شيراك الذي عينه في مناصب رفيعة والذي تبنى حلّ الدولتين. وشيراك أحب وصف نفسه بصديق العرب، وتبنى سياسات اعتبرها البعض قريبة منهم.
يقال إن علاقة شيراك بالعرب تمتنت بعد زيارته القدس في العام 1996. خلال الزيارة حاول حراس إسرائيليون منع الرئيس الفرنسي من الاقتراب من الحشود الفلسطينية، ما دفعه للغضب والتهديد بركوب طائرته والعودة إلى فرنسا في مشاهد التقطتها عدسات المصورين. يومها قال شيراك إنها "ليست طريقة للتعامل إنه استفزاز". وتخليداً لذكرى الزيارة سمّي شارع في غزة باسم شيراك.
لدوفيلبان تاريخ حافل من التصريحات المشابهة لتصريحاته اليوم. في العام 2014 وفي مقال نشرته له صحيفة "لوفيغارو" اعتبر إن من واجب فرنسا أن ترفع صوتها في وجه المجازر المرتكبة في غزة، اعتبره واجباً تجاه إسرائيل، قائلاً إن "فرنسا الملتزمة التزاماً قوياً بوجود وأمن إسرائيل، والواعية في الوقت ذاته بالحقوق والواجبات التي يجب على إسرائيل أن تقوم بهما بوصفها دولة". وفي العام نفسه انتقد وزير الخارجية السابق تشكيل تحالف دولي ضد داعش. برر موقفه بالقول "إن الحرب ضد الإرهاب لا يمكن الفوز فيها لأن الإرهاب يد خفية متغيرة استغلالية، لا نتحارب مع يد خفية بأسلحة الحرب. يجب استخدام أدوات السلام لفصل قوى تتجمع حول الإرهاب يجب رؤية سياسية وقدرة على التفكير بإجراءاته تتجاوز القنابل".
مواقف دوفيلبان من الحرب الإسرائيلية على غزة نالت استحسان كثير من العرب، على الرغم من أنها لا تحمل انحيازاً لصالح الفلسطينيين. بعضهم يستعين بها كتصريح غربي ينتقد إسرائيل وآخرون يرون فيها مواقف متوازنة كما يرون في مطلقها شخصية ديبلوماسية قادرة على رأب الصدع الذي يتسع بين فرنسا والعرب الممتعضين من سياساتها. لكن هذه المواقف جعلت دوفيلبان عرضة لانتقادات حادة في بعض الصحف والمحطات الفرنسية ومن قبل عدد من السياسيين.
في إحدى المقابلات ووجه دوفيلبان بأخبار نشرت في بعض وسائل الإعلام تطرح تساؤلات حول علاقته بقطر، الدولة التي يقيم فيها عدد من مسؤولي حماس. تحاول هذه الأخبار الربط بين مواقف وزير الخارجية السابق وعلاقته بقطر. ردّ دوفيلبان بنفيها، وأكد أن ما يجمعه بقطر هي علاقة صداقة مع عائلة الشيخ حمد تماماً كما تجمعه علاقات بمسؤولين كثر حول العالم. كما أكد أنه لم يستفد مادياً من الجائزة الأدبية التي حصل عليها في قطر في العام 2010.
وبعيداً من الجدل الذي تثيره في عالم "هش" يزداد انقساماً، تبقى تصريحات دوفيلبان مدعاة للهدوء والتفكر. لكنها تطرح أيضاً تساؤلاً عن المستقبل السياسي للرجل المخضرم، وإن كان من دور ديبلوماسي قد يلعبه مستقبلاً لرأب الصدع الذي يزداد اتساعاً بين شمال العالم وجنوبه.