إضافة لتراثها الزاخر والمتنوع، وحضارتها المتجذّرة في الأعماق، تسابق ليبيا الزمن لتسجيل الكسكسي في اليونسكو، إذ تسعى لإثبات أن طبق الكُسكُس الذي يشتهر به المغرب العربي والمعروف محليًا بـ "الكسكسي"، يعنيها بقدر ما يعني جيرانها المغرب والجزائر وتونس، حيث يطمح الليبيون إلى تقدير دولي لتراثهم المطبخي والثقافيّ الغنيّ.
وليبيا هي الدولة الوحيدة في شمال أفريقيا غير المسجّلة على أنها معنيّة بتقاليد وجبة "الكسكس" المدرجة منذ عام 2020 ضمن قائمة اليونيسكو للتراث الثقافي غير المادي، وذلك بسبب عدم انضمام ليبيا إلى هذه المعاهدة الدولية، وبالتالي عدم خضوعها لشروطها. وتتحرّك منظمات المجتمع المدني من خلال مبادرات مختلفة "لدفع الملف" عن طريق الضغط على السلطات.
كلمة أمازيغية
والكسكسي أو الكسكس أو سيكسو هي كلمة أمازيغية ذكرها أبو بكر بن دريد (البصرة/العراق/838م) في كتاب "جمهرة اللغة" في القرن العاشر للميلاد.
ويعود تاريخ هذا الطبق إلى الفترة 202-148 قبل الميلاد حيث تم العثور على أواني طبخ تشبه تلك المستخدمة في تحضير الكسكسي في مقابر تعود إلى فترة الملك ماسينيسا (238 ق.م-148 ق.م).
والملك ماسينيسا هو موحّد مملكة نوميديا وعاصمتها سيرتا (محافظة قسنطينة اليوم) وكانت تضم شمال الجزائر ومناطق من تونس وليبيا.
وذكر رحالة ومؤرخون كثر "الكسكسي" في أعمالهم منهم المؤرخ الفرنسي شارل اندري جوليان (1891-1991) في كتابه "تاريخ شمال إفريقيا".
وقال المؤرخ الفرنسي: "اشتهر البربر في كل العصور بقوة بنيتهم وطول أعمارهم، وكان الفلاحون يأكلون الكسكسي منذ ذلك العهد (الروماني) ومربو المواشي قليلاً ما كانوا يذبحون حيواناتهم بل يكتفون بلبن المعز وكانوا يؤثرون الصيد والحلزون والعسل ولا يشربون إلا الماء".
كما سمحت عملية تنقيب وحفريات بمحافظة تيارت (غربي الجزائر) بالعثور على بعض الأواني منها القدر المستعمل في تحضير الكسكس ويعود تاريخها للقرن التاسع بحسب خبراء.
تقاليد الكسكس المغاربية
وتنتشر في المغرب تشكيلة متنوعة من أطباق الكسكس، تختلف بحسب الخصائص الطبيعية والثقافية لكل جهة من جهات المملكة، ففي الأرياف يعبّر طبق الكسكس عن تعاقب الفصول وما يتوفّر في كل منها من حبوب وخضر، وفي كل من المدن والقرى يعتبر الكسكس طبقًا أساسيًا في الأفراح والأحزان، حيث يجري تحضيره كلما كان هناك تجمع استثنائي بغض النظر عن المناسبة.
ويتّسم الكسكس بعدد من الطقوس والعادات التي ترافق تحضيره واستهلاكه، مما يجعل هذا الطبق يمثل إرثًا ثقافيًا مرتبطًا بحقول معرفية عديدة.
ويحضّر طبق الكسكس في جميع البيوت المغربية من دون استثناء، ويعتبر تقديمه دليلاً على حفاوة الاستقبال والكرم والالتفاف حول مائدة واحدة بما يعنيه من وحدة واجتماع، فمباشرة بعد صلاة الجمعة التي تعتبر بمثابة التجمّع الديني الأكبر خلال الأسبوع، تلتئم الأسر المغربية حول طبق الكسكس دلالة على استمرار هذا الاجتماع، ويعتبر حضور هذا الطبق مؤشرًا على الاحتفال والفرح بخيرات الطبيعة وبحلول جلّ المناسبات، سواء منها العائلية أو الزراعية أو الأعياد.
خصوصية فريدة
وفي حال المصادقة على الاتفاقية، يمكن لليبيا أن تنضم إلى موريتانيا والمغرب والجزائر وتونس في ملف الكسكس "لأن التسجيل لا يعني ملكية نهائية أو حصرية" من قبل بلد واحد، على ما تؤكد اليونسكو.
وتؤكد منيرة زويت (43 عاما) أنها تتمنى ذلك من كل قلبها. وافتتحت هذه الطاهية مطعمًا خاصًا بها في العاصمة، ونشرت على الفيسبوك واليوتيوب صور الحلويات التي تبتكرها وتستوحيها من الاتجاهات العالمية.
لكنّ الكسكس يبقى بالنسبة إليها "خطاً أحمر"، إذ تحرص على طهوه بالطريقة التقليدية.
وبزيّ الشيف الأبيض الذي يحمل تطريزات ذهبية ليبية، تحضّر طبقها المفضّل عن طريق سكب قليل من الملح ومسحوق الفلفل الحار وقليل من القرفة مما يترك طعمًا حلوًا.
وتقول زويت التي تعلمت إعداد الكسكس من أمها في صغرها إنه "ليس مجرد طبق نأكله، بل مرآة حضارة، ومهارة تتناقلها الأجيال".
وتعمل زويت المتمسكة جدًا بالتراث للحفاظ عليه "بأبسط" طريقة، على ما تقول، أي من خلال الاستمرار في طهو الأطباق التقليدية. وتقول إن تقاسم الطعام يشير إلى "علاقة حميمة لا مثيل لها" بين الجميع.
وأثير الجدل أكثر من مرة حول أصله، وما إذا كانت دولة مغاربية محددة قد اختصت به ثم نقلته صوب بلدان أخرى، لكن يبدو أن الجدل قد انتهى بصيغة توفيقية، بعدما أقرت اليونيسكو الطبيعية المغاربية لطبق الكسكسي.
وتشترط منظمة "اليونسكو"، بحسب لوائحها، لإدراج أي موروث إلى قائمة التراث العالمي توفّر تعبير المجتمعات عن حس الانتماء والتملك حيال العنصر الثقافي وهذا ما يمثله طبق "الكسكسي" لدى شعوب دول المغرب العربي.