على عكس تأليف الحكومات في لبنان، غالبا ما لا يستغرق صوغ البيانات الوزاريّة فترةً طويلة.
كلّما ضاقت الأحوال، تتّجه الانظار إلى وزراء دائمًا ما يعرضون انفسهم كمخلّصين. من يقرأ البيانات الوزاريّة اللّبنانيّة، يُخيّل إليه أنّ لبنان أصبح بين حكومةٍ وضحاها بلدًا الإستيرادُ فيه أقل والتّصديرُ فيه أكثر، العراقيل فيه أقل والحلولُ فيه أكثر، الأقوالُ فيه أقل والأفعالُ فيه أكثر. لكن في لبنان، لا يصح إلّا غير الصّحيح.
يناقش البرلمان اللّبنانيّ البيان الوزاريّ وعلى أساسه يُعطي الثّقةَ للحكومة أو يحجبها عنها. وظيفةُ البيانات الوزاريّة عرضُ المشاريع المُقرَّر تنفيذُها وإرساء قواعد التواصل الدّاخليّ والخارجيّ.
ماذا يطبّق من البيانات الوزاريّة؟
لنعود إلى الأرشيف وتحديدًا إلى الفترة الممتدّة من عام 2005 وصولًا إلى اليوم. خلال هذه المدّة، تألّفت عشرُ حكومات تولّى رئاستَها كلّ من نجيب ميقاتي وفؤاد السنيورة وتمّام سلام وسعد الحريري وحسان دياب. من حيث الشّكل، اختلف حجمُ كلِّ بيان وزاري عن الآخر واختلف عدد الأقسام والمحاور. ولكن ماذا عن المضمون؟القواسم المشتركة وغير المشتركة
لكل حكومة ظروف خاصة بتوقيت تأليفها، فحكومة ميقاتي الأولى مثلًا تألّفت عام 2005 من أجل إنجاز الانتخابات النيابيّة ولُقِّبَت يومها بحكومة الانتخابات، وحكومة تمّام سلام عام 2014 كان أحد اهم بنود بيانها الوزاري العمل على تأمين الانتخابات الرئاسيّة في موعدها. وكذلك للحكومة الحاليّة ظروفٌ محيطةٌ بتأليفها لاسيّما التحقيق في انفجار مرفأ بيروت وانهيار العملة الوطنيّة مقابل الدولار. في المقابل، قواسمُ مشتركةٌ كثيرة تجمع بين البيانات الوزاريّة أبرزُها: تفعيلُ العلاقات مع الدّول العربيّة، تحويلُ الاقتصاد الوطني من ريعي إلى مُنتِج، تخفيفُ نسب الدّين العام، تطوير قطاعَي الزّراعة والصّناعة، تأمينُ الكهرباء 24/24، تفعيلُ سكك الحديد، تخفيضُ نسبة البطالة، الحدُّ من هجرة الشّباب، وإقرارُ ضمان الشّيخوخة. هي وعودٌ أساسيّةٌ نالت الحكوماتُ على أساسها الثّقة، لكن لم يتحقّق منها شيئ.ماذا لو وفَت الحكومات بوعودها؟
لو وفَت الحكوماتُ المتعاقبةُ بوعدٍ واحد فقط وطوّرت النقلَ العام المشترك، لما كان اللّبنانيّون اليوم مُجبرين على تحمّل عبء رفعِ الدّعم عن المحروقات. لو وفت الحكومات المتعاقبة بوعد واحد فقط وطورت قطاعي الزراعة والصناعة، لما كان المواطنون اليوم مجبرين على شراء البضائع المستوردة باهظة الثّمن في ظلّ غيابِ بضائع محليّة بديلة. لو وفت الحكومات بوعد واحد فقط وحولت الاقتصاد الوطني إلى منتج، لما كان الوضع المعيشي مرهونا بكل تغير يطرأ على سعر الصرف. أليس جارحًا أن تعد البياناتُ الوزاريّةُ شعبًا بأكمله أنه سينعم بكهرباء متواصلة، فيغدو بعدها شعبًا يعيش على ضوء الشّمعة؟ أليس جارحًا أن تعدكم البيانات بأن لبنان سيصبح بلدًا منتجًا للنفط، والنتيجة ذلٌ يوميّ أمام محطّات الوقود للحصول على صفيحة واحدة من البنزين او حتى اقل؟شعارات رنّانة
لا تتوارث الحكومات الحلول بل المصائب، ما جعل من شعاراتها اسما على غير مسمى.
"حكومة الإرادة الوطنية الجامعة"، "حكومة المصلحة الوطنية"، "حكومة إلى العمل"، "حكومة مواجهة التحديّات". كلُّها شعاراتٌ تختصر مراحل مختلفة من تاريخ لبنان السياسي، من دون أن تمثل يوما واقعَ العمل الوزاري.
اليوم، ارتأت الحكومة الحالية تبني شعار "معًا للإنقاذ" بهدف إيجاد حلول لأسوأ أزمة اقتصاديّة ومعيشيّة في تاريخ لبنان. فهل تنجح الحكومة في هذه المهمة بعد نيلها ثقة المجلس النيابي؟
عام 2011، ترأس ميقاتي مجلس الوزراء للمرة الثانية رافعا شعار "كلّنا للوطن...كلّنا للعمل" واعدًا بإخراج لبنان من أزماته. ولكن في آذار عام 2013 قدّم استقالته قائلًا إنّ المشاكل تحاصره. أمّا اليوم، فعاد ميقاتي واعدًا بالإنقاذ على الرغم من أنّ الأزمةَ الرّاهنة أكثر صعوبةً وتعقيدًا. هنا تكمن المفارقة، إلّا أنّ ميقاتي كثيرًا ما كرّر من على منبر قصر بعبدا أنّه "رجلٌ بحجم هذه المرحلة".
تتعدّد الحكومات لكن البيانات الوزرايّة غيرُ متباينة، باستثناء مفردات تغيب أو تحضر نتيجة تغيرات سياسية وأمنيّة طارئة سواء المرتبطة بالاغتيالات المتتالية قبل سنوات أو المتعلّقة بالعلاقات مع سوريا بعد اندلاع الحرب السوريّة.
على اي حال، أثبتت البيانات الوزاريّة على امتداد السنوات أنّ العموميات ما عاد يُعوّل عليها وأنّ الوعود المجانية ما عادت صالحة. بعض البيانات الوزارية عرض الوعود من دون تحديد آليّة تنفيذها، وبياناتٌ أخرى من بينها بيانُ حكومة "الإرادة الوطنيّة الجامعة" عام 2008 كانت فندت كل الاسترتيجيات المنوي اتباعها. لكن في الحالتين، لم ينفذ أي مشروع إصلاحي واضح. وبالتالي، تؤكد التجارب السابقة أن السلطة في لبنان غاية
بحد ذاتها وليست وسيلة لبناء مستقبل أفضل.