أيام قليلة ويدخل اتفاق ترسيم الحدود البحرية بين لبنان واسرائيل حيّز التنفيذ، فيما يستمر الجدل حول صيغته النهائية داخل لبنان، بين مؤيد لها ومن لا يرى أنها ترقى لمستوى الثروة الضخمة التي تختزنها مياه بلدهم، رغم ان الاتفاق ضخ نوعاً من الإيجابية في البلاد الغارقة في إحدى أسوأ الازمات الاقتصادية في العصر الحديث.
"الاتفاقية التاريخية"، كما وُصفت، صادقت عليها الحكومة الاسرائيلية ومن المقرر أن تُعرض على الكنيست الإسرائيلي لكنها لن تسلك طريقها إلى مجلس النواب اللبناني ليقرها وقد اطلع عليها كل من رئيس الجمهورية ورئيسي مجلسي النواب والوزراء اللبنانيين وأعلنوا ترحيبهم بها مع تسجيل بعض الملاحظات.
3 نقاط أفقدتها مصداقيتها
أمام تشعب الآراء حول ملف دقيق بحجم اتفاقية دولية، تواصلت "جسور" مع المؤرخ المتخصص في تاريخ لبنان في القرن التاسع عشر الدكتور سعيد شعيا الذي أشار بداية الى أن “نشر النص أولاً في وسيلة إعلامية إسرائيلية ليتمكن اللبنانيون من الاطلاع عليه معيب ما يؤكد بأن لبنان لديه الكثير ليخفيه" وتوقف عند نقاط عديدة وضعت "مصداقية الدولة اللبنانية" على المحك في ملف دقيق كملف الغاز مؤكداً أن ما حصل "يُعد أكبر مهزلة في تاريخ لبنان الحديث".
وارتكز شعيا في تحليله على ثلاث نقاط رئيسية شابت الملف أولها "سرعة إنجازه" إذ خلال 22 سنة، كما أوضح "لم يتمكّن الخبراء في الإدارات الرسمية المعنية كما المستشارين والقانونيين، من رسم خط بحري يضمن حق لبنان في حدوده البحرية".
وتابع قائلاً "في المقابل يطلب منا اليوم كمواطنين أن نصدق بأن اتفاقاً وزعته السفيرة الأميركية عند الساعة الرابعة من بعد ظهر السبت على الرؤساء الثلاثة، تمت مراجعته من قبلهم خلال يومين فقط ووافقوا عليه يوم الإثنين في القصر الجمهوري أي خلال 36 ساعة فقط".
وتساءل "أين تكمن مصالح لبنان العليا مع هكذا تغيير بين أسبوع وآخر؟" مؤكداً أن "عدم الثبات عند موقف معين في القضايا الوطنية ومصالح الدولة العليا والاستراتيجية ليس سوى برهان عن عدم مصداقية لدى المسؤولين".
أما في الدرجة الثانية فتحدث شعيا عن "تقطيع الوقت عبر بث نوع من البلبلة حول من يوافق على الاتفاق ومن لا يقبله ثم يرضى الجميع به".
وثالثاً رأى شعيا أن المهزلة استمرت حين لم يعرض الاتفاق على مجلس النواب "لا يمكن عدم تمرير اتفاق دولي بهذا المستوى على مجلس نواب منتخب من الشعب، فيما راجعه رؤساء ثلاثة ليسوا بتقنيين".
اللغة المرجعية والدقة
كمؤرخ لفت شعيا أيضاً إلى أهمية كل عبارة تستخدم في أي نص رسمي وانتقد ما أعلنه نائب رئيس مجلس النواب الياس بو صعب "اتفقنا على كل شي ما عدا بضع كلمات" مشيراً إلى قيام المجتمعين بفتح معجم لتفسير كلمات في نص الاتفاقية من الانكليزية إلى العربية لاستيضاح معناها".
وأضاف "كل عبارة لها مكانتها ومعناها وتفسيرها كما أن لها تبعات اقتصادية وسياسية ودبلوماسية وأمنية بالتالي اتفاقية دولية كهذه، اعتمدت الانكليزية كلغة مرجعية أو reference language، يجب أن تُعهد إلى كبار الخبراء الدوليين من كل الاختصاصات لدراستها ومعرفة ما قيل والأهم ليتمكنوا من قراءة ما بين السطور والفقرات".
وأسف شعيا "لعدم اهتمام المكونات السياسية في لبنان بموضوع في هذه الأهمية واكتفاء الجميع بمعرفة من ربح ومن خسر من الاتفاق كما لم يتوقف أحد عند فكرة انتهاء الرؤساء من دراسة اتفاقية بلغة أجنبية خلال 36 ساعة وأعلنوا اعتراضهم على بعض الأمور الشكلية فيها."
كذلك أكد أن "كافة الاتفاقيات ليست مهمة بنفسها بقدر ما هي مهمة "مع الملاحق الخاصة بها (بعض النقاط لا يضعونها في الاتفاقية بل يوردونها في ملحق) أي les annexes ومع الخرائط المرافقة لها ومع كتيب لطريقة التنفيذ، ثلاثة أمور لم يأتِ أحد على ذكرها".
دور الخط الأزرق
في الختام أوضح شعيا أن "المسار العام لترسيم الحدود البحرية منذ 22 سنة إلى اليوم كان خاطئاً وبدأ مع الانسحاب الاسرائيلي من جنوب لبنان واعتماد الخط الازرق في جميع المحادثات والمراسلات والتركيز عليه مقابل التغاضي عن ذكر خط الحدود الدولية الذي تم تثبيته عبر اتفاقية الهدنة وما وراءها سنة 1949".
بالتالي سأل شعيا "كيف يمكن لمسار خاطئ من الجذور أن يوصلنا إلى نتيجة جيدة؟" واصفاً ما حصل بـ "اتفاقية العار والذل والمهانة".
نقاط إيجابية
رغم ما شاب الملف من أخطاء وغموض، لا تزال الإيجابية موجودة كما أشار الخبير الاقتصادي الدكتور جاسم عجاقة لـ"جسور" "يمكننا القول اليوم إن لبنان، في أقل تقدير، كسر حاجزاً أساسياً وجوهرياً في عملية التنقيب عن الغاز واستخراجه"
وأضاف" بالتالي ومن هذا المنطلق، الإيجابية تكمن في انخفاض التوتر وإمكانية البدء بشيء ما في هذا البلد".
إلى ذلك لم ينكر عجاقة أن أمام لبنان تحديات أخرى مرافقة "هذا لا يعني أنه أصبح بامكاننا القيام بما نريده" مذكراً بمقولته "كل دولة تدخل مجال استخراج النفط والغاز والموارد الطبيعية عامة يصبح لها موقع استراتيجي على الساحة الدولية وبالتالي تتقلص خياراتها السياسية خارجياً، وفي أي لحظة يمكن إيقاف اللعبة" مقدماً مثالاً "كما قالت شركة توتال إنها لم تجد غازاً في البلوك رقم 4 لا شيء يمنعها من الإعلان أنها لم تجد شيئاً في البلوك رقم 9 أيضاً".
تفادي المتلازمة الهولندية
أما عملية استخراج الغاز فيجب أن تترافق، كما يلفت عجاقة "مع الإصلاحات الإقتصادية والنقدية والقانونية والإدارية كي لا نغرق في المتلازمة الهولندية".
وأوضح "كل بلد يملك موارداً طبيعية ويعتمد على اقتصاد الريع بالدرجة الأولى يصاب بالمتلازمة الهولندية أي يدخل إليه دولارات بكمية كبيرة نتيجة بيع هذه الثروة الطبيعية فيصل البلد إلى مرحلة تقتل الاقتصاد".
ويشير "لدينا ثروة غازية أحفورية من المفترض أن تجف بعد فترة من الزمن والطريقة السليمة للاستفادة منها تكون عبر شبك اقتصاد البلد بها من خلال قطاعات عدة لتفادي عدم اعتماد البلد على الريع وانتاج ثروة من غير الماكينة الاقتصادية" .