فصل الصيف الحالي كان الأقسى منذ بدايته على مياه العراق وبيئته وطبيعته بسبب الارتفاع القياسيّ في درجات الحرارة، وتأثيرات التغيّر المناخي من جفاف وتصحّر وعواصف ترابية وغيرها من عناصر باتت مألوفة بالنسبة للعراقيين.
ففي هذا الصيف تفاجأ العراقيون بجفاف بحيرة ساوة لؤلؤة الصحراء العراقيّة (تابعة لمحافظة المثنى جنوبي البلاد) كما تفاجؤوا أيضًا بجفاف بحيرات أخرى صغيرة وتقلّص مساحات الأهوار المائية في الجنوب وغيرها، مع انخفاض قياسيّ في مستويات المياه الجارية في نهري دجلة والفرات، حتى وصل الحال إلى إطلاق حملة على مواقع التواصل الاجتماعي تحت وسم "العراق يموت عطشا" للفت الانتباه إلى خطورة ما يحدث.
كما أن العراق فقدَ هذا الصيف وللمرّة الأولى أعدادًا غير قليلة من غزلان الريم التي يتميّز بها والمهدّدة بالانقراض، والتي نفقت حرًا وعطشًا في المحميّات الخاصّة بها في عدد من المدن العراقية، مع نفوق مماثل لحيوان الجاموس المائي الذي يعيش في الأهوار الجنوبية فضلاً عن تراجع الثروة السمكيّة وغيرها.
إلى جانب كل ذلك، كانت العواصف الترابيّة منذ بداية موسم الصيف الحالي هي الأكثر عددًا والأعلى كثافة ليتعدى تأثيرها ما تمّ تسجيله في السنوات السابقة سواء من حيث عدد الإصابات بحالات الاختناق أو التسبّب بشل حركة الطيران والسير في البلاد.
كل ما تقدم يرتبط بطبيعة الحال بالتغيّر المناخي الناتج عن الاحتباس الحراري الذي حل العراق في مقدمة دول المنطقة والعالم من حيث التأثر بانعكاساته، غير أن الأوساط الرسميّة والسياسيّة العراقية لها رأي آخر.
دول الجوار والدور الأخطر
لا يقلّل المسؤولون والمختصّون العراقيّون من مخاطر التغيّر المناخي على بلادهم لكنهم يرون أن الأمر مرتبط بالدرجة الأولى بما تفعله دول الجوار، لاسيّما تركيا وإيران من خلال تحكّمهما بملف المياه العراقية والتي تمثّل الجارتان الشرقيّة والشمالية المنبع الأبرز بالنسبة للجزء الأكبر من هذه المياه.
إذ أن تقليل إطلاقات المياه من تركيا في نهري دجلة والفرات وتقييد حصّة العراق بحاجته المخطط لها من المياه مع قيام إيران بتغيير مجرى الأنهر، كلّها عوامل ساهمت بشكل مباشر في تفاقم الأزمة المائية لبلاد الرّافدين.
ويقول وزير الموارد المائية العراقي الأسبق حسن الجنابي في حديث لمنصة "جسور"، إن "دول المنبع هي المسؤولة عن انخفاض منسوب المياه والجفاف الذي بدأ يضرب العراق خلال الفترة الماضيّة".
ويقلّل الجنابي من تأثيرات التغيّر المناخي على الجفاف الذي يُعانيه العراق، إذ يعتبر أن العوامل الجيوسياسيّة وغياب الحلول السريعة من الحكومة العراقية لهذا الملف هي التي أدّت إلى تفاقم الأزمة المائيّة للبلاد.
ويوضح الجنابي، أن "التغيّر المناخي التي يعاني منه العراق والعالم ليس له علاقة بالجفاف الذي يحصل في البلاد، كون التغيّر في الطقس غير مسؤول عن تلوّث الأنهر أو انخفاض مستوى المياه في البلاد، كما أن هناك العديد من العوامل التي تؤثّر بشكل مباشر على ملف التخلّص من الجفاف والتصحّر في العراق، أبرزها تقلبات الجو والأمطار وغيرها".
ويضيف الجنابي، إن "الزراعة تعد من المشكلات التي يعانيها العراق حيث أن المنتجات الزراعية تحتاج إلى كميات كبيرة من المياه، وبالتالي هذا يمثل تحديًا آخر أمام الحكومات ولا بدّ من إيجاد الحلول السريعة لهذا الملف".
حرب إقليميّة
لا يخفي العراق قلقه من دور كل من تركيا وإيران في هذا الملف كما أنه لم يتردد في توجيه الانتقاد أو حتى الاتهام بشكل رسمي لأي من الدولتين في مناسبات عدة بالتسبب بأزمة المياه، غير أنّ ما يفعله العراق لا يصل إلى حجم "الحرب الإقليمية" التي يواجهها في هذا الملف، ما يستدعي اتّخاذ خطوات عملية كفيلة بتغيير قرارات جاراته الشرقيّة والشماليّة.
ويقول الباحث السياسي سعد الزبيدي في حديث لمنصة "جسور"، إن "حرب المياه بدأت منذ عقود لكنّ الحكومات المتعاقبة في العراق لم تعر اهتمامًا لما يحدث وهذا ما تسبّب بجفاف الأنهر والروافد وزيادة مساحة التصحر في الأراضي الصّالحة للزراعة مع ازدياد عدد العواصف الترابيّة والغبار المضر للحياة والمحاصيل وغيرها".
ويرى الزبيدي، أن "ضعف الحكومة المركزيّة وعدم قدرتها على إدارة ملف المياه، أدّى إلى تطاول تركيا وإيران بتجاوزها المياه من دون الاكتراث للقوانين الدولية التي تقسم المياه بين الدول المتشاطئة للأنهر، حيث استمرّت تركيا ببناء السدود في حين غيرت إيران مجاري الأنهار".
الحلول التي يقترحها الزبيدي "صعبة ومعقّدة" بالنسبة للعراق في هذا التوقيت، فعلى الرغم من "استشعار كردستان الخطر ومباشرتها ببناء السدود، لكنّ حكومة المركز لم تتحرّك حتى الآن بصورة فعليّة وهي لا تستطيع التحرّك بجدية لأسباب عدة وبالتالي يجب تدويل الملف من خلال رفع دعاوى قضائيّة ضد تركيا وإيران لحل المشكلة وإلا فالعراق مهدّد بفقدان مياهه".
الزبيدي يعتقد أنه يتوجّب على العراق "القيام بإنشاء السدود وترشيد استخدام المياه واستخدام كل الوسائل المشروعة لثني تركيا وإيران عن سياسات تقليل حصّة العراق من المياه، وهذا الأمر لا يتحقق إلا من خلال حكومة قويّة تبتعد من الحلول الدبلوماسية وتنتهج سياسة ناجعة تتمثّل بالردود الاقتصادية والتحذيرات المباشرة".
تقليص رقعة الزراعة
يتفق رأي الخبير الزراعي والمائي عادل المختار مع رأي الباحث سعد الزبيدي حيث يرى، أن "استحواذ دول المنبع على الكميات الكبيرة للمياه هو السبب في مشاكل العراق الذي يضطر إلى تخفيض مساحة الزراعة سنويًا إلى النصف، للتماشي مع ما يحصل عليه من مياه".
ويضيف المختار في حديث لمنصة "جسور"، إنّ "المساحات المزروعة في العراق انخفضت إلى 2 ونصف مليون دونم هذا الموسم، بعدما كانت أكثر من 5 ملايين دونم في الموسم الماضي، وقد يضطر العراق إلى خفضها في الموسم المقبل إلى مليون وربع المليون دونم، وهذه إحدى التأثيرات المُباشرة التي تضاف إلى قائمة التأثيرات البيئية التي تسببت بالتلوث لانخفاض مستويات المياه".