كتبت زينة منصور الباحثة في الإقتصاد السياسي والعلاقات االدولية في جسور:
تسير الحرب الروسية الأوكرانية نحو النهاية خلال الأشهر الستة المقبلة، في وقت يترنح الاقتصاد العالمي على حافة الهاوية.
توحدت دول حلف شمال الأطلسي خلف أوكرانيا على أمل أن تتم هزيمة روسيا، وبعد 6 أشهر من الحرب وتقديم كل اشكال الدعم العسكري الجوي والبري للجيش الأوكراني بمساعدة 27 دولة من الناتو، لم تلق روسيا الهزيمة المرجوة. وها هي بعض الدول الكبرى والصغرى في المعكسر الغربي تفكر جديا بوقف دعمها للحرب ودول غربية عدة عادت لتتقرب من روسيا وتميل لتأييد إنهاء الحرب.
أمام الحشد العسكري الأوكراني التي تشد من أزره قرابة الثلاثين دولة من الناتو، لم تحسم روسيا الحرب لصالحها، ولم تنتصر ولكنها لم تنهزم والقوات الروسية في أوكرانيا بحالة جيدة. وظهرت متماسكة وصامدة عسكرياً في مواقعها.
مصلحة أوروبا الاقتصادية
يتجلى الإنتصار الروسي إقتصادياً وعسكرياً بنسبة معينة بإعادة إنفتاح المجتمع الغربي على روسيا إقتصادياً وما يليه من إنفتاح سياسي. يميل الغرب إلى الإستغناء عن أوكرانيا وإنهاء الحرب مقابل إنقاذ اقتصاد أوروبا والحفاظ على مناعة وحصانة الإقتصاد الأميركي وحماية الإقتصاد العالمي من الاهتزاز وتخفيف مخاطر تهديد الامن الغذائي والطاقي العالمي. ويتجلى ذلك في الإمدادات العسكرية بالاسلحة الدفاعية لأوكرانيا لا الهجومية. لم يعد دعم أوكرانيا القضية الأولى لدى الإتحاد الأوروبي الذي يطرح على نفسه اسئلة حول مصلحة أوروبا الإقتصادية من استمرار الحرب.
وقف الدعم العسكري
تفكر أكثر من دولة اوروبية جدياَ بالتوقف عن إرسال الدعم العسكري الإضافي لأوكرانيا. وتسأل الحكومات والبرلمانات الأوروبية عن الفترة الزمنية القصوى التي يمكن لأوروبا احتمالها مع انقطاع الغاز الروسي وعن جدوى التمسك بالحرب وعن قدرات أوروبا الإقتصادية للصمود المالي والطاقي في حال استمرار الحرب. انخفض منسوب الدعم الغربي للرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي وتضاءل دعم الإعلام الأميركي والأوروبي له. فقلّ ظهوره على الشاشات بصفته بطلا بعد أن دفع الأوروبيون والاميركيون ثمن الحرب من نقص الوقود في سياراتهم وارتفاع أسعاره والعجز عن تأمين وسائل التدفئة شتاءً لمنازلهم بموازاة الغلاء في أسعار السلع والتضخم والركود وتباطؤ النمو الاقتصادي.
إحياء التعاون
تحاول دول أوروبية عدة والولايات المتحدة إعادة التواصل الاقتصادي مع روسيا. وتفكر شركات اميركية والمانية وهولندية بإعادة التعاون التجاري او إعادة فتح فروعها في روسيا. عرضت البورصة الأميركية السندات الروسية بشكل طبيعي في السادس عشر من شهر آب/أغسطس الماضي 16/08/2022 ما يؤشر على إدراك واشنطن لعمق الآثار السلبية الإقتصادية للعقوبات على كل من الإقتصاد الأميركي والأوروبي والعالمي ككل ضمن توقف سلاسل الإمداد والتوريد والإنتاج وتراجع النمو العالمي نتيجة قوة الدولار.
وكما يبدو أن إتخاذ بعض الشركات والبورصة الأميركية قرار استئناف التعامل الاقتصادي مع الروس سيتبعه تواصل سياسي غير مباشر عبر وسطاء بين دول الغرب وروسيا.
رسمياً، عاد عمالقة "وول ستريت" ومن بينهم "جي بي مورغان" و"بنك أوف أميركا" و"سيتي غروب" و"دويتشه بنك" و"باركليز" بحذر إلى سوق السندات الحكومية الروسية وسندات الشركات الروسية". وكانت وزارة الخزانة الأميركية قد نشرت إرشادات في يوليو/ تموز الماضي سمحت للبنوك الأميركية بتسهيل تصفية وتسوية المعاملات مع الأوراق المالية الروسية.
التفاوض أو التنازل
تدفع الصغوط الإقتصادية على الإتحاد الأوروبي إجبار زيلينسكي على التفاوض او التنازل. مع اقتراب فصل الشتاء يضعف الدعم الأوروبي الأميركي لاوكرانيا، وهو ما بدأ يستشعره الرئيس الأوكراني مع اختلاف زخم الدعم عن فترة بداية الحرب. كل المؤشرات تدل على أنه لو تم عرض حل تفاوضي على روسيا وأوكرانيا او فرضية مبادرة دولية لانهاء النزاع قبل فصل الشتاء ورفضته اوكرانيا، ستوقف اوروبا دعمها لأوكرانيا ما سيجعل اوكرانيا دولة مستفردة دولياً تقاتل الروس بمفردها. أما لو رفض بوتين فالدعم الأوروبي لأوكرانيا سيستمر.
خطر الشتاء
على أبواب فصل الشتاء، بات الإتحاد الأوروبي يلاعب روسيا نتيجة استشعاره بالخطر، فهو ما زال يرسل السلاح ويعد بإرسال المزيد إعلامياً، لكنه لن يرسلها بمعدلات مرتفعة تسمح بإنهاء الحرب لصالح أوكرانيا وهزيمة روسيا، خشية من اي ردة فعل روسية عنيفة. التزمت واشنطن بمساعدة أوكرانيا عسكرياً وإنسانياً ب 54 مليار دولار، 10 مليار دولار منها للدعم العسكري و44 مليار للدعم الإنساني وإعادة الاعمار.
كما التزمت واشنطن بمليار و200 مليون دولار مقدمة لأوكرانيا للانفاق العسكري والتسليح للجيش الأوكراني، وقدمت الأسلحة والدبابات والتعزيزات الجوية الدفاعية. بريطانيا أكثر الدول الداعمة لأوكرانيا، عبر الحليف الأقرب إلى زيلينسكي، الذي ذهب ضحية دعمه لأوكرانيا على حساب إقتصاد بلده، بوريس جونسون، رئيس الحكومة المستقيل والقائم بالأعمال.
التقارب الغربي الأميركي الأوروبي يعادل التقارب السعودي القائم ضمن سياسة التوازن بين الروس والأميركيين والغرب والشرق. وهو تقارب موازٍ للتقارب الإيراني الروسي. تدرك روسيا أنها حتى لوكانت مرتبطة بتحالف سياسي عسكري مع إيران، فهي تراهن على علاقات موازية مع السعودية لناحية التنسيق المشترك في منظمة الأوبك بلاس.
يراهن الخليج العربي على الروس نتيجة تقلب سياسات الحزبين الديمقراطي والجمهوري في واشنطن تجاه الرياض وقرر بوضوح استراتيجي عدم شراء عداوة روسيا.
فالملياردير السعودي الوليد بن طلال اشترى في فبراير/شباط الماضي حصة سهمية في غاز بروم الروسية بقيمة 350 مليون دولار و أخرى بـ150 مليون دولار في روز نفط الروسية أي حصتين بقيمة نصف مليار دولار عبر شركته المملكة القابضة بحسب فاينانشل تايمز. من ثم جرى ضم الشركة إلى صندوق الاستثمار السعودي التابع للدولة. فأصبح استثمار المملكة القابضة استثمارا غير مباشر وشبه رسمي للمملكة العربية السعودية نفسها. وتشير صحف اميركية إلى أن الخلاف بين بن طلال وولي العهد السعودي قد سوي وتريطهما حالياً علاقة جيدة.
دخول مباشر
دولتان سجلتا دخولا علنياً في فضاء الدعم العسكري لروسيا لحسم الحرب، إيران وكوريا الشمالية. ففي وقت طرح الرئيس الكوري كيم جونغ أون على روسيا إرسال مئة الف عسكري كوري شمالي ضمن معاهدة الأمن والدفاع المشترك لمساعدة القوات الروسية في الحسم، ومن ثم تمّ نفي الموقف عبر الصحف الاميركية. نشرت صحف أميركية أخرى معلومات عن شراء روسيا ألف مسيرة حربية من إيران تم شحنها إلى سوريا، ونقلها إلى روسيا عبر ميناء طرطوس السوري. ويبقى السؤال: هل ستنتهي الحرب في أوكرانيا ام ستسمر برغم كل مظاهر التحشيد العسكري وإظهار استمرارية تدفق الدعم الغربي؟.
التضحية بأوكرانيا
كل التقارير الغربية تشير إلى أن الغرب قد يصل نتيجة الضغوط الإقتصادية شتاءً إلى مرحلة التفاوض او التنازل عن أوكرانيا وتضحية أوروبا بأوكرانيا باعتبار الحكومات والبرلمانات الأوروبية تخشى نقمة شعبية من عملية التضحية باليورو والتدهور الإقتصادي والمعيشي وزيادة الضرائب. كذلك لن تضحي واشنطن برضى الأميركيين. وبحسب استطلاعات الرأي في ألمانيا نصف الألمان يفضلون التنازل عن أوكرانيا وانقاذ أوروبا.
إذا كانت أوروبا على مشارف دخول فصل شتاء بارد ومثلج، فمن المتعارف عليه أن الجيش الروسي هو الأخبر والأكثر تمرساً بحروب الشتاء تاريخياً حيث يحقق انتصارات عسكرية خلالها. لذلك من مصلحة أوروبا أن تنتهي الحرب قبل الشتاء لو أمكن، وإن تعذر نتيجة الإصرار الأميركي فقد تتوقف دول عدة عن الدعم، وسيصعب استمرار الحرب حينها أكثر من 6 أشهر اضافية، خصوصا أن حكومات أوروبية تعتبر أن الرئيس الروسي ماطل بإضاعة الوقت لاستدراج الأوروبيين لحرب الشتاء، الذي يعتبر الجيش الروسي الأقدر على حسمها مع خفض إمدادات الغاز الروسي عن أوروبا او قطعها بالكامل.
سيطر الروس عسكريا على إقليم دونباس ومعركتهم المتبقية في الجنوب حيث المعركة الإقتصادية الأساسية لجهة السيطرة على الموانئ البحرية وعلى رأسها ميناء أوديسا.
صمدت روسيا وبدأ المعسكر الغربي بإعادة الإنفتاح الإقتصادي عليها، بعد رهانه على أن العقوبات غير المسبوقة ستسرع في إضعافها وإبطاء نموها وإنهاء الحرب. فها هي دول أوروبية عدة تبحث عن جواب على سؤال مُلِحْ: متى تنتهي الحرب؟. متى يعود خط الغاز نورد ستريم واحد للعمل بين روسيا وأوروبا؟. كم سيحتمل الأوروبيون الأعباء الإقتصادية للحرب؟. وتطرح أكثر من دولة مسألة الاستغناء عن أوكرانيا وإنهاء الحرب.