كتب صهيب جوهر في جسور:
منذ فجر انطلاقتها منتصف العشرينات من القرن الماضي تعيش جماعة الاخوان المسلمين على اختلاف تلاوينها وتحيزاتها أزمة توصيف لدورها المجتمعي، فالجماعة التي ارسى قواعدها الأولى مؤسسها حسن البنا كتيار إصلاحي احيائي للمجتمع مهمته دعوة الناس للإسلام وتعاليمه وفروضه، ما لبثت أن تحولت لجماعة "منافسة على النفوذ الشعبي" مع تيارات وأحزاب قومية ويسارية، وهذه المنافسة فرضت على التنظيم الذي أعاد طرح شعارات الجهاد والكفاح المسلح لمواجهة الانتداب البريطاني والذي كان يحكم القصر الملكي المصري حينها.
تجربة السندي والعودة لبطون التاريخ
لذلك كان على البنا تأسيس بنية عسكرية سرية تكون قبضة الجماعة الحديدية في ظروف تهدد وجود الجماعة لذا جرى تأسيس التنظيم الخاص والذي تحول في المستقبل لجماعة موازية نتيجة وجود مقدرات مالية وعسكرية وبشرية بين يدي زعيمه عبد الرحمن السندي، وكان أول أعمال النظام الخاص هو تفجير النادي البريطاني، الذي كان مكتظاً بضباط وجنود الجيش الإنجليزي ليلة عيد الميلاد، ولكن التفجير لم يخلف أي ضحايا انما كانت رسالة من النظام الخاص الاخواني للقوى العاملة في مصر أن الجماعة باتت حاضرة في كل الميادين.
والسندي الذي حمل مؤهلاً علمياً متوسطاً، كان يعاني من اعتلال في صمامات قلبه نتيجة حمى روماتيزمية، ومع ذلك كان يقود العمل العسكري، وكان يتسم بنشاط كبير حيث سار في قيادته للنظام الخاص بشكل متسارع جعله ينال رضا قيادات الإخوان، ولكن ومع انتشار وازدياد قوة النظام الخاص شعر الرجل بقوته وسلطانه، وكان يتصرف في بعض الأحيان تصرفات لا يقرها مرشد الجماعة حسن البنا ولا مكتب الارشاد، لشعوره أنه على مستوى الندية مع مرشد الجماعة نفسه ورغم ثورة كثير من الإخوان على السندي والنظام الخاص بعد اغتيالهم المستشار أحمد الخازندار، إلا أن البنا حالت دونه ودون اقالته عوائق كثيرة أهمها شعوره أن الاحتكاك بظله العسكري والأمني دونه عقبات جمة.
وللتاريخ وبالعودة لوثائق وكتب جمة أهمها كتاب الاخوان والجيش للدكتور سعود المولى فقد تمرد السندي على مرشده الذي فصله من مركزه بعد اغتياله رئيس الحكومة المصرية محمود فهمي النقراشي، وقال عن السندي ونظامه "ليسوا إخواناً وليسوا مسلمين". وثمة العديد من الشكوك التي تحيط بالسندي وقيامه باغتيال البنا. لكن المؤكد هو قيامه باحتلال مكتب الإرشاد أيام حسن الهضيبي خليفة البنا، ومحاولته اقتحام منزله لولا تدخل الرئيس المصري وقتها محمد نجيب. بالإضافة الى شهادات بعض الإخوانيين السابقين عن قيام السندي باغتيال من عينه البنا مكانه في قيادة التنظيم الخاص وهو سيد فايز بواسطة صندوق من الديناميت، والسندي نفسه وبعد ثورة عبدالناصر على نجيب وقمعه للإخوان اختار صف عبدالناصر واعتزل الجماعة التي يحمل في عقله كل اسرارها.
حماس والجماعة.. التاريخ يتكرر
هذه المطالعة التاريخية مردها أمران رئيسيان الأول قرار حركة حماس إعادة اندماجها سياسياً مع نظام بشار الأسد وتراكض قياداتها السياسية والأمنية للتبرؤ من مواقف دعم الثورة السورية والتي تبنتها الحركة ابان مرحلة تولي خالد مشعل لرئاستها، والاصل في ذلك يعود لسبب رئيسي وهو سيطرة الجناح الأمني بشقيه الداخلي والخارجي لقيادة التنظيم الفلسطيني وأيقونة هذا الجناح يمثلها زعيم الحركة في غزة يحيى السنوار والذي يقود الحركة منذ 5 سنوات.
فيما السبب الآخر هو في فوز الفريق المقرب من حماس وحزب الله في انتخابات الجماعة الإسلامية في لبنان وهذا الجناح هو اندماج فريد لجهازي الأمن والعسكر وبعض محظيي المؤسسات والمال، وهذه التركيبة ليست غريبة وهي انعكاس طبيعي تعيشه كل التيارات الدينية أو اللا-دينية وفي تجارب الأحزاب الشيوعية والقومية خير برهان ودليل، ونتائج انتخابات الجماعة والتي هلل لها اعلام حزب الله كانت أبرز الأسباب للقول أن التحالف مع الاجرام نهاياته مؤلمة وموجعة.
وعلى الرغم من كل الرفض الذي حظي به قرار حماس على امتداد الأقطار العربية والتي كانت تثمل به حماس مرجعية للنضال والكفاح الفلسطيني إلا أن الحركة لم تأبه لكل التحذيرات، أضف إلى حماس حريصة على جر كل التنظيمات الاخوانية في المنطقة معها إلى دائرة التحالف مع محور الممانعة عبر ترتيب لقاءات حوارية بين الإيرانيين والتنظيم العالمي للإخوان، وعبر قيامها بمصالحة حزب الله والجماعة الإسلامية في لبنان ومحاولاتها ترتيب تحالف انتخابي بين الطرفين في الانتخابات البرلمانية الأخيرة، متجاوزة كل أعرافها ووثائقها السياسية بالحديث عن تجنب الخوض في الملفات السياسية للدول والأنظمة.
الأساس أن المعركة الحقيقة ليست في سياسات حماس وخياراتها الوطنية والعربية، فالسياسة فن الممكن، والحركة اصلاً تعيش حصاراً تقوده دول وأنظمة عربية على اي معارضة لأمر واقع يجري فرضه على الشعوب كالتطبيع مع اسرائيل، لكن أزمة حماس هي أزمة عمرها مئات السنوات عاشتها كل النظم والحركات والجماعات على امتداد التاريخ، وهي سيطرة الأمن والعسكر على قرارات مدنية وسياسية، والعبث بالمنطق والذهاب بالبراغماتية لحدودها القصوى اللاأخلاقية كما تفعل حماس اليوم وكما فعلت جماعة الاخوان سابقاً في محطات كثيرة، وتجربة عبدالرحمن السندي لا تختلف كثيراً عن تجربة يحيى السنوار والذي قال في جلسة مغلقة لقيادات الحركة مطلع 2019 أن الثورة السورية كانت "خطأ تاريخي" وذهاب الحركة لحد الانغماس في دعمها كان خطيئة.
من يعتذر للآخر
وهناك سؤال بديهي يجب أن يسأل لحماس والجماعة الإسلامية في لبنان والتي ليس من المستغرب أن تجرها حماس لمصالحة الأسد ونظامه اذا ما استمر جناحه بالإمساك بالجماعة بشكل أوسع وأكبر، وهو ماذا سيقول الحمساويين والاخوان لقيادات النظام في سوريا، هل سيطلبون من النظام وقف المجازر والاعتذار عن المسار الاجرامي الذي سلكه أعتى أنظمة التطهير العرقي المنطقة، أم أن النظام الذي يشترط اعتذار الحركة سيحصل على ذلك، وهذا الاعتذار هل سيشمل إخوانهم في لبنان والذين شاركوا لسنوات في دعم المعارضة السورية وتزوديها بالمال والسلاح واحتضان النازحين.
في نهاية المطاف كان بارزاً ما قاله مسؤول في إخوان لبنان حين سأله بعض شباب الجماعة عن رؤيته لمستقبل التنظيم، فكان جوابه بأنه يشبه هذه المرحلة الى مرحلة الصدام بين مؤسس الإخوان المسلمين حسن البنا مع التنظيم الخاص، الذراع العسكري للإخوان المسلمين بقيادة عبد الرحمن السندي أواخر الأربعينيات من القرن الماضي،