كتب إبراهيم ريحان في جسور:
تقول المُؤشّرات إنّ العمليّة العسكريّة التّركيّة ضدّ ما يُعرف بـ"قوّات سوريا الدّيمقراطيّة" (قسد) ذات الغالبيّة الكرديّة صارَت أقرب من أيّ وقتٍ مضى.
لم يعُد المسؤولون في أنقرة يمتلكون صبرًا كافيًا تجاه تمادي "الجناح السّوريّ" لـ"حزب العمّال الكردستانيّ"، وكذلك ما يحدُث في الإقليم من كردستان إيران وكردستان العراق. باتَ العمق الاستراتيجيّ مُهدّد، ولا يريد الأتراك أن يشاهدوا جزءاً ثانيًا من الانفجار الذي استهدَف سوقًا تجاريًّا في منطقة تقسيم في اسطنبول قبل أسابيع قليلة.
بالطّبع يحسبُ الأتراك حسابًا لتوازنات المنطقة، وهذا الميزان باتَ في صالحهم.
لم تعُد شريكتا أنقرة في "مسار آستانة"، موسكو وطهران، تُعارضان العمليّة التّركيّة ضد "قسد" كما كان الحال في تمّوز/يوليو الماضي يومَ التقى الرّؤساء رجب طيّب أردوغان وفلاديمير بوتين وإبراهيم رئيسي في طهران.
حملَت الأشهر الخمسة الأخيرة أحداثًا غيّرَت الموقف المُعلَن وغير المُعلَن في العاصمتيْن الإيرانيّة والرّوسيّة.
تُعاني إيران من حراكٍ لا يهدأ منذ أكثر من 70 يومًا بعد مقتل المواطنة الكُرديّة مهسا أميني على أيدي ما يُسمّى "شُرطة الأخلاق" التّابعة للنّظام. تلعبُ محافظة كردستان الإيرانيّة دورًا كبيرًا في الاحتجاجات ضدّ النّظام الإيرانيّ، وهذا ما دفَع "الحرس الثّوريّ" إلى توتير الأجواء مع كردستان العراق المُجاور.
صارَ الإيرانيّون محكومون بالجغرافيا التي تربط مناطق الأكراد في المنطقة من إيران إلى سوريا مرورًا بالعراق وتركيا. لن يُمانِعَ الإيرانيّون بعد اليوم ضربَ العمق الكرديّ المُسلّح في سوريا، إذ باتَ بسحرِ تصرّفات "شرطة الأخلاق" تهديدًا للأمن القوميّ الإيرانيّ بحكم التّاريخ والجغرافيا والدّيمغرافيا.
وجّه الإيرانيّون رسائلَ ناريّة للأكراد خارجَ حدودهم. قصفَ "حرس الثّورة" عشرات المرّات بالصّواريخ والمُسيّرات مناطق في محافظة أربيل، عاصمة إقليم كردستان العراقيّ. تهدفُ هذه الرّسائل من النّظام الإيرانيّ لأكراد العراق أن تصلَ لأكراد سوريا أيضًا بأنّ أيّ ضغطٍ بالورقة الكرديّة سيزيد من العنف الإيرانيّ ضدّهم.
يُفسّر هذا أيضًا إقدام حكومة محمّد شيّاع السّوداني، المُقرّب من طهران، في العراق الإعلان عن عزمها إرسال قوّات من الجيش العراقيّ إلى الحدود مع إيران وتركيا. بكلامٍ آخر فإنّ إيران تُريد أن تقطع الوصلة الجغرافيّة بين أكرادها وأكراد المنطقة في سوريا وتركيا والعراق.
**هذا في إيران، ماذا عن روسيا وأميركا؟**
تنظرُ موسكو إلى "قسد" كفصيلٍ أميركيٍّ يهمّها أن تراه مهزومًا كنوعٍ من ردّ الاعتبار من الخسائر الرّوسيّة على الأرض الأوكرانيّة في الأسابيع الأخيرة. كذلك فإنّ توتّر العلاقات مع واشنطن يجعل من الصّعب التّوصّل إلى تفاهمٍ معها في سوريا، ولكنّها في الوقت عينه ترتاح إلى التّفاهم مع تركيا ورئيسها بحكم التّجربة في السّنوات الـ8 الأخيرة.
أمّا الولايات المُتحدة، فإنّ الخريطة السّوريّة قد لا تكون على سلّم اهتمامتها مع تركيز اهتمامها على هزيمة أو تقليم أظافر روسيا في المُستنقع الأوكرانيّ. يُضاف إلى ذلك تركيز إدارة جو بايدن على ملفّ الطّاقة والغاز، والضّغط الكبير الذي سيُمارسه حلول فصل الشّتاء على حلفائها في أوروبا بسبب العقوبات التي فرضتها واشنطن على الغاز الرّوسيّ.
بعيدًا من الأرض الأوكرانيّة، تهوي الأنظار الأميركّة إلى أقصى المشرِق حيث الصّين وهموم المُنافسة معها من مضيق تايوان إلى بحر الصّين وكوريا الشّماليّة واليابان وجُزر المحيط الهادئ. بكلامٍ آخر، فإنّ اهتمامات أميركا بعيدة كلّ البُعد من إمكانيّة تركيزها على فصيلها في الشّمال السّوريّ، "قسد".
تشير معلومات خاصّة إلى أنّ وفدًا من "قسد" يقيم في الولايات المُتحدة التقى مؤخّرًا مسؤولين أميركيين من مكتب الأمن القوميّ.
سمِعَ الوفد كلامًا يشير في طيّاته إلى أنّ واشنطن رفعَت الغطاء عنهم، خصوصًا أنّ المسؤولين الأميركيين قالوا لوفد "قسد" إنّ الدّعم الذي حصلوا عليه كان للعمليّات الهادفة لمُحاربة تنظيم "داعش" وليسَ لصدّ الهجمات التركيّة أو مُحاربة الفصائل السّوريّة الأخرى. هذا الكلام بحدّ ذاته رسالة أميركيّة سلبيّة بالنّسبة لـ"قسد".
في الإطار نفسه، لا يُريد الرّئيس الأميركيّ جو بايدن أن يُعقّد العلاقات مع تركيا. فأنقرة هي ثاني أكبر جيش في حلف شمال الأطلسي "النّاتو"، لكنّ الأهمّ هو الدّور البارز الذي تلعبه تركيا في إدارة التّواصل بين موسكو وكييف و"اتفاق الحبوب" هو خير دليل على ذلك.
يُضاف إلى هذا نجاح أنقرة في عقد لقاءٍ بين رئيس وكالة الاستخبارات المركزيّة الأميركيّة ويليام بيرنز ونظيره الرّوسيّ سيرغي ناريشكين بضيافة نظيرهما التّركيّ حقّان فيدان. هذه النّقطة بالذّات تُعطي تركيا نقطة قوّة لا تريد واشنطن أن تقطعها...
هكذا باتَ الرّئيس التّركيّ يُمسكُ كلّ المُقوّمات السّياسيّة لعمليّته البرّيّة ضد حزب العمّال الكرستاني ضمنَ الأراضي السّوريّة. وهُناك ستكون تتمّة الحديث...