من جديد، تعصف أزمة أسعار الصرف بالاقتصاد العراقي لتثقل كاهل المواطن الذي بات يعاني الأمرين مع غياب الاستقرار بالأسعار وتزايدها بشكل ملحوظ، إذ يواصل الدولار الأميركي ارتفاعه في الأسواق العراقية، على حساب الدينار، مسجّلاً أعلى ارتفاعٍ له بحدود ألف و600 دينار مقابل الدولار الواحد، في وقتٍ تبدو فيه الحكومة، برئاسة محمد شياع السوداني، عاجزة عن إيجاد حلٍّ سريع للأزمة التي تلوح بوادرها في الأفق.
وبعد أسابيع من إجراءات جديدة فرضها البنك الفيدرالي الأميركي على نظيره العراقي، منعت تحويلات مالية ومبيعات دولار لصالح مصارف وشركات متهمة بغسل الأموال لصالح جهات مسلحة، تشهد أسواق العملة في العراق تراجعاً متسارعاً في قيمة الدينار المحلي.
ونتيجة لمنع هذه المصارف من التعامل بالدولار الأميركي، شحَّ عرض العملة الصعبة في السوق ليقفز سعر صرفها إلى أكثر من 158 ألف دينار، وسط توقعات بأن يصل إلى حاجز الـ160 ألفاً قريباً، رغم تشاؤم خبراء اقتصاد عراقيين بأنَّ الوضع في طريقه إلى المسار اللبناني، لكنَّ الفارق في الوضع العراقي أنَّ الأميركيين شدَّدوا الرقابة على رؤوس الأموال والشركات التي تملك مصالح نشطة مع الفصائل المسلحة، ومع إيران التي تستخدم هذه الشركات للتكيف مع العقوبات الأميركية.
حكومة السوداني عاجزة
وتواجه حكومة رئيس الوزراء العراقي، محمد شياع السوداني، منذ أسابيع ضغوطاً واسعة من جراء الانخفاض المتواصل في أسعار صرف الدينار مقابل الدولار الأميركي، الأمر الذي يضعه وحكومته في زاوية حرجة ويعرّضه إلى انتقادات شعبية واسعة وأخرى سياسية شديدة تَصدر عن أقرب حلفائه من قوى الإطار التنسيقي الشيعية.
المخاوف والضغوط المتواصلة، دفعت السوداني، إلى لقاء محافظ البنك المركزي مصطفى غالب مخيف، وإصدار بيان حول الاضطرابات الحاصلة في أسعار الصرف، قال فيه إنه حثّ البنك المركزي على تحقيق الاستقرار العام للأسعار وسعر الصرف، وفقاً للمهام المنصوص عليها في المادتين (3 و4) من قانون البنك المركزي العراقي، اللتين تنصّان على استهداف البنك المركزي تحقيقَ استقرار سعر الصرف المحلي، وتنظيم ومراقبة عمل المصارف وتعزيز سلامة وكفاءة أنظمة الدفع وتطوير نظام المدفوعات.
من جهته، أكد المركزي العراقي، اتخاذ إجراءات تؤدي إلى استقرار سعر صرف الدولار، مشيرا إلى "ترشيح عدد من المصارف" لبيع عملة الدولار للمواطنين أيام العطل الرسمية.
وقال مستشار البنك المركزي، إحسان الياسري، إن "البنك المركزي اتخذ عدة إجراءات لتوفير عملة الدولار الأجنبي منذ الأسبوع الماضي، نتج عنها انخفاض سعر الصرف في السوق المحلي"، وأضاف: "البنك سيصدر تعليمات لعدد من المصارف التي تم اختيارها من قبله، للعمل أيام العطل الرسمية (الخميس والجمعة والسبت والأحد المقبلين)، ليستمر بيع الدولار إلى الجمهور".
ونوّه إلى أن هذا "سيعمل على تلبية متطلبات أصحاب الاحتياجات من النقد الأجنبي، لأغراض السفر والعلاج والدراسة"، مؤكدا أن "الأيام المقبلة ستشهد عرض عملة الدولار النقدي تلبية تامة".
الحوالات السوداء
وفي هذا الصدد، يقول الباحث في الشأن السياسي والاقتصادي نبيل جبار العلي التميمي في حديث لـ"جسور": "في السابق كان يستخدم التجار مكاتب الحوالات والمصارف لإجراء حوالاتهم للخارج، والتي بدورها يتم تعزيزها من العملة الصعبة عبر البنك المركزي ونافذته، وبعد تقييد الحوالات من قبل الفيدرالي اختار التجار مساراً آخر لتغذية التجارة، فالتجأوا إلى مكاتب الحوالة التي بدورها لجأت إلى تمرير حوالات يشتبه بنقلها برا إلى إيران وتركيا، ثم من تركيا تدخل من جديد النظام المصرفي لتنتقل بعدها إلى دبي وبقية دول العالم"، مضيفاً "أسمي هذا النوع من الحوالات المالية بـ ( الحوالات السوداء) التي تجري بمعزل عن النظام المصرفي العراقي، وهذه العملية تسببت بزيادة الطلب المحلي على الدولار نتيجة لجوء التجار للسوق لتوفير الدولار بدلا عن البنك المركزي الذي يواجه مجموعة من الضوابط والمعايير".
وأضاف العلي، أن هناك أسبابا وعوامل إضافية متعلقة بالحسابات الختامية لنهاية السنة لبعض المصارف والمؤسسات المالية.
ورغم أن البنك المركزي يسعى لضبط سعر صرف الدولار بما يضمن الاستقرار المالي بالأسواق العراقية، إلا أن خبراء اقتصاديين حذروا من أن السعر لن يعود ببساطة لسابق عهده عند عتبة 147 السائدة على مدى العامين الماضيين، وهو ما سيسهم في رفع وتيرة التضخم والغلاء أكثر وتراجع القدرة الشرائية للعراقيين.
غضب شعبي
أما المحلل السياسي العراقي، علي السامرائي، فحذّر في حديث لـ "جسور" من اندلاع "ثورة جياع" في العراق بسبب ارتفاع الدولار المستمر في السوق المحلي، قائلا: "لا شك أن الوتر الأكثر حساسية وأشد وطأة، هو ما يتعلق بقوت المواطن ومصادر رزقه، وفي حال حدوث أي طارئ على هذا الصعيد، سيقضي على العملية السياسية، التي دخلت منعطفا خطيرا، في الجانب الاقتصادي والمعيشي لأكبر شريحة وأوسعها من الشعب العراقي".
وبيّن السامرائي، أن العراق يحقّق مدخولات هائلة من عائدات النفط تعتبر الأكبر على مر التاريخ، واذ لم يجنِ المواطن هذا العنصر الإيجابي ويستعيد جزءا من حقوقه، فثورة الجياع باتت قريبة لا محالة، ولن تستثني أحدا من الطبقة السياسية، في ظل تقارير تتحدث عن تحويل الحكومة الحالية أموالا إلى دول مجاورة مخالفة بذلك العقوبات الاقتصادية والقيود الدولية.
كما لفت السامرائي إلى أنّ استمرار ارتفاع الدولار سيرفع من أسعار المواد الغذائية وكذلك الأدوية والمواد الأخرى ما سيرفع نسبة الفقر في البلاد وبما يقود إلى سحق الطبقة الوسطى وليس الفقيرة فقط.
حلّ أزمة الدولار قانونا
بدوره، طرح الخبير القانوني علي التميمي، حلولا لمشكلة أسعار الدولار قانونيا، موضحا عبر "جسور" أنه بموجب الاتفاقية الثنائية بين العراق والولايات المتحدة الأميركية الموقّعة بين البلدين عام 2008 وفي المادة 27 منها، ألزمت أميركا بمساعدة العراق اقتصاديا وعند الأزمات، خصوصا أن صعود سعر الدولار تتحكم به أميركا عن طريق الفدرالي الاميركي والحوالات الخارجية.
ورأى أنه يمكن للعراق مفاتحة واشنطن بالتنفيذ مباشرة لهذه الاتفاقية أو عن طريق الامم المتحدة حيث أن هذه الاتفاقية دولية ومودعة في الامم المتحدة بموجب المادة 102 من ميثاق الامم المتحدة.
وأكد التميمي، ان الولايات المتحدة الأميركية ملزمة أيضا بموجب اتفاقية جنيف الرابعة مساعدة العراق كونها دولة محتلة ملزمة وفق هذه الاتفاقية بمساعدة الدولة التي احتلتها وهي العراق عام 2003.
وأضاف أن المادة رقم 50 من ميثاق الأمم المتحدة أتاحت للدول التي تحارب تنظيمات موضوعة تحت الفصل السابع ان تطلب مساعدة مجلس الأمن اقتصاديا والعراق حارب داعش الموضوع تحت الفصل السابع بموجب قرار مجلس الأمن ٢١٧٠ لسنة ٢٠١٤، وقد أبدت فرنسا وبريطانيا استعدادها لمساعدة العراق.