أزمة مالية صعبة يعانيها العراق تضاف لسلسلة أزماته السابقة في ظلّ عجز حكومة محمد شياع السوداني، وتخبط في القرارات إزاء ارتفاع سعر صرف الدولار إلى أكثر من 153 ألف دينار مقابل كلّ 100 دولار، في وقت يبيع فيه البنك المركزي الدولار الواحد بـ1460 ديناراً. كل ذلك يأتي، وسط مخاوف من انهيارات متتالية قد تترك تداعيات اقتصادية صعبة على أحوال العراقيين، خصوصاً بعد المعلومات التي تشير إلى تحويل كميات كبيرة من الدولارات إلى إيران الرازحة تحت وطأة العقوبات أميركية.
هذه الأزمة الغامضة التي تلقي بظلالها على الاقتصاد العراقي وضعت حكومة السوداني في حرج أمام الشارع العراقي خصوصا وأنها تعيش "شهر عسل" ولم يمضِ على تشكيلها عدة أشهر. ويرجع متابعون عبر "جسور" السبب في ذلك إلى الصراع الإيراني - الأميركي، والإجراءات الأخيرة التي اتخذتها السلطات الأميركية لتشديد تحويل الدولارات من العراق إلى إيران. فهل ستبقى حكومة الأخير تراوح مكانها من دون أن تتحرك نحو حلّ سريع لأزمة الدولار، أم أّن الشارع العراقي سيعجّل من رحيلها كما فعل مع حكومة عادل عبد المهدي؟
أسباب عديدة
ويربط العديد من المراقبين للشأن الاقتصادي العراقي ما يجري بضعف السياسات النقدية في البلاد، مع تحكم شركات معينة تعمل بمجالات الحوالات الخارجية في سعر الدولار من خلال ما توصف بـ"حرب المضاربات"، أضف إلى ذلك الإجراءات التي اتخذتها الإدارة الأميركية بسبب علمها بإجراء صفقات تجارية بين بغداد وطهران بالعملة الأميركية.
وفي هذا الإطار، يشير أستاذ العلوم السياسية في جامعة بغداد، إحسان الشمري، في تصريح لـ "جسور"، إلى أنّ الثغرات الموجودة في السياسة وفي قضية التحويلات المصرفية استثمرت من قبل إيران وحلفائها لغرض تعزيز الرصيد الدولاري لإيران خصوصا وأنها تخضع لعقوبات أميركية، وبما أنّ طهران تنظر إلى بغداد باعتبارها رئة الاقتصاد وفيما بعد على أنها خزينة دولارية، إستغلّت هذه الثغرات من جهة، ومن جهة أخرى ضغطت باتجاه استمرار تدفّق الدولار بعيدا من الضوابط والتوصيات الأميركية.
ويضيف: "وقد راقب البنك الفيدرالي الأميركي منذ سنوات عملية تحويلات سوداء إلى إيران وكان يُسائل وقتها الحكومات المتعاقبة في هذا الشأن، وأيضا قضية ما يعرف بـ"الصناديق الطائرة" إلى طهران، لذلك كان يقدّم الكثير من الإستفسارات إلى الحكومات العراقية التي لم تستطع أن تقنع البنك الفيدرالي الأميركي وحتى وزارة الخزانة بطبيعة هذه التحويلات".
وحاليا، يعتقد الشمري أن تذبذب الدينار العراقي مقابل الدولار الأميركي يعود إلى عدة أسباب منها: مقاربة جديدة لإدارة الرئيس الأميركي جو بايدن، تتسمّ بممارسة ضغوط قصوى تجاه إيران لدفعها للقبول بالإتفاق النووي، وقد تجد أنّ وضع ضوابط في عملية التحويلات إلى إيران من خلال العراق هو ما يدفع إلى نقص الإمدادات وإعادة تقييم ومراجعة الضوابط التي يتم من خلالها تدفّق الدولار إلى العراق أو حتى تحويله من العراق إلى إيران أو حتى لبنان.
وكشف الشمري عن معلومات تفيد بأن بعض التحويلات المالية باتت تذهب إلى روسيا، وهذا بحد ذاته أزعج الولايات المتحدة الأميركية، لذا انعكس هذا الموضوع سلبا على السوق العراقية وترنّح بنتيجته الدينار العراقي بشكل غير مسبوق، مبينا أنّ القضية لا ترتبط بالسوق العراقية أو بالسياسة المالية للحكومة بقدر ما هي حرب باردة أميركية إيرانية تجلّـت اقتصاديا على الساحة العراقية مع انهيار الدينار.
من يتحمّل المسؤولية؟
في المقابل، حمّل الشمري عبر "جسور" المسؤولية إلى بعض الأطراف الداخلية التي تضغط باتجاه استمرار تدفّق الدولار تجاه إيران ولبنان وسوريا وروسيا وحتى تركيا، والقيام أيضا بعمليات غسيل أموال ضخمة من قبل أطراف سياسية لها وزنها وتأثيرها في القرار التنفيذي.
وفيما أوضح أنّ حكومة السوداني انطلقت بـ3 مستويات، بيّن أنّ أوّلها تمثّل عبر الدفع بحزمة قرارات لغرض تخفيف تداعيات انهيار الدينار العراقي، واستهدفت الطبقات الفقيرة، أما المستوى الثاني، فيرتبط وفق الشمري بوضع سياسة مالية والإلتزام بالمعايير الجديدة التي تَدفع بها وزارة الخزانة والبنك الفيدرالي الأميركي، والمستوى الثالث والأخير، هو القيام بحوار عميق مع واشنطن وتقديم ضمانات بأنّ عمليات التحويلات سيُسيطر عليها، وبالتالي لن تكون هناك تحويلات إلا وفق الضوابط الجديدة، وهذا المستوى سيكون مقبولا من قبل الولايات المتحدة، لكن في حال تمادت الأطراف الداخلية بالضغط على حكومة السوداني بتحويلات كبيرة جدا، عندها سيشهد الدينار العراقي المزيد من التدهور، وبالتالي سيكون له الأثر السلبي على شرائح المجتمع كافة، كما لن تَسمح به بعض الطبقة السياسية المناوئة لإيران. وحذّر الشمري من أنّ انهيار الدينار سيؤدي إلى تدهور اقتصادي، الأمر الذي قد يشعل فتيل تظاهرات كبيرة قد تضع البلاد أمام سيناريو مشابه لحكومة عادل عبد المهدي.
إصلاحات اقتصادية
وفي ظلّ هذه المتغيرات المتسارعة والمطالبات الدولية والسعي الحكومي للإصلاح الاقتصادي، هل العراق بحاجة إلى تبني مسار جديد؟ يجيب الباحث الاقتصادي والسياسي نبيل جبار التميمي في حديث لـ "جسور" أنه على رغم الوفرة المالية المحققة من ارتفاع أسعار النفط خلال السنتين الأخيرتين، إلا أنه من الضروري جداً الشروع بتنفيذ إصلاحات اقتصادية بعضها قد يصل إلى التغيير الجوهري، مضيفاً، يتوجب على أصحاب القرار وضع خطة للإصلاح الاقتصادي عبر تحقيق سياسات بأبعاد مختلفة قصيرة ومتوسطة وطويلة الأمد، يتم من خلالها تحديد هوية الاقتصاد العراقي، والبدء عمليا بخطوات هدفها تنويع الاقتصاد وتفعيل القطاعات الانتاجية، ورسم مساحة عمل القطاع الخاص في القطاعات وصولا إلى مرحلة تأمين مداخيل الدولة من الموارد بما يضمن استدامة إنفاقها التشغيلي والاستثماري، وأيضا توسعة الأنشطة الاقتصادية بما يحقق ارتفاعا في الناتج المحلي الإجمالي العراقي يضمن توفير فرص عمل كافية لامتصاص البطالة والحد من الفقر.
وشدّد التميمي عبر "جسور" على أن حكومة مصطفى الكاظمي السابقة قدّمت ورقة إصلاحية سمّيت بالورقة البيضاء حظيت بكثير من التأييد والدعم الدوليين، وهي خطة ترتكز بالمقام الأول على إجراء إصلاحات مالية في عمل الدولة ومؤسساتها، ووصف التميمي تعهّد السوداني من خلال منهاجه الوزاري بتقديم ورقة جديدة للإصلاح الاقتصادي، بأنه مطلب سياسي أولاً عبّرت عنه القوى السياسية المشكّلة للحكومة (تحالف إدارة الدولة) مبدية رغبتها بأن تقدّم الحكومة مثل هذه الورقة خلال فترة وجيزة من عملها، ويتطلع رجال السياسة والاقتصاد لهذه الورقة اليوم على أمل أن تقدّم مجموعة سياسات إصلاحية واعدة ومتزنة قادرة على تحقيق المصالح الاقتصادية للبلد.