بدت لافتة أمس زيارة وفد من منظمة حزب الله إلى بكركي. وسارع بعضهم الى اعتبارها تنازلاً أو تراجعًا من قبل البطريركيّة اللبنانيّة. في حين أنّ بعض المراجع السياسيّة وضعت هذه الزيارة في إطار الحملة الحواريّة التي تقودها منظمة حزب الله. هذه الحملة التي تلجأ إليها هذه المنظمة عندما تتعثّر في السياسة والعسكر. لكن ما هي الدلالات التي يمكن استخلاصها من هذه المساعي المزعومة وسط هذه الأجواء المشحونة؟
يجب أن يعلم اللبنانيّون كلّهم، ومعهم العالم كلّه أنّ الحوار بين اللبنانيّين ليس مرفوضًا بالمطلق. لكن لأيّ حوار حدّ أدنى من المقوّمات إن لم تتوفّر تصبح هذه الدّعوات مجرّد إعلانات فلكلوريّة لا قيمة وطنيّة لها لأنّها فارغة المضمون.
فالكلّ يعلم أنّ هذه المنظمة المسلّحة إنّما وسيلتها الوحيدة للضغط السياسي كانت عبر تاريخ تعاطيها العمل السياسي هي الضغط عبر استخدام سلاحها في الدّاخل اللبناني. وغالبًا ما كانت تنجح بصرفه سياسيًّا.
لكن هذه المعادلة تغيّرت بعدما بات أهالي المناطق المحرّرة من وجود هذه المنظّمة في مواجهة مباشرة لغزواتها لمناطقهم من خلدة إلى شويّا وليس انتهاء بعين الرّمانة. أمام هذا الواقع، تمّ إبطال قدرة وهج هذا السلاح غير الشرعي الذي نجحت هذه المنظمة بإخافة بعض صغار النّفوس فيه حينًا. إضافةً إلى ذلك، الإعتراف المباشر بدولة العدوّ الإسرائيلي من قبل هذه المنظمة التي ادّعت محاربتها طوال أربعة عقود كذريعة لوجودها العسكري ومن بعده السياسي للسيطرة على المجموعة الحضاريّة الشيعيّة أولاً وعلى لبنان الدّولة ثانيًا.
هذا الاعتراف الذي عطّل مفاعيل السلاح. فالمواجهة الدّاخليّة والسلام الصامت الذي وقّتته هذه المنظمة مع دولة العدوّ الإسرائيلي جعلاها عارية من أيّ قدرة مسلّحة قد تمكّنها بعد اليوم من السيطرة على القرار السياسي الدّاخلي.
لذلك، لجأت اليوم عبر أندية وجمعيّات محلّيّة بتسويق نظريّة الحوار التي سيّرها حليفها الاستراتيجي دولة الرئيس برّي مؤسّساتيًّا. ولكن بعد نجاح الفريق السيادي في المؤسّسات بتفريغ هذه الدّعوة وإظهارها على حقيقتها انتقلت منظمة حزب الله إلى الخطّة البديلة.
ممّا لاشكّ فيه اليوم أنّ مصدر الشرعيّة المؤسّساتيّة في لبنان يُستمَدُّ من خمس ركائز:
1- مؤسّساتيّة عبر رئاسة الجمهوريّة بالتحديد.
2- عسكريّة عبر قيادة الجيش أوّلاً.
3- روحيّة عبر المراجع الدينيّة.
4- شعبيّة عبر التكليف الذي يمنحه الناس في الانتخابات النيابيّة للسياسيّين.
5- دوليّة عبر المؤسّسات الدوليّة كالأمم المتحدة وجامعة الدّول العربيّة.
من هنا، بعدما تمّ تفريغ الدّولة من رئاسة السلطة التنفيذيّة أيّ من قبل رئاسة الجمهوريّة، وبعد القطيعة التي فرضتها غزوة عين الرمانة بين مؤسسة الجيش اللبناني ومنظمة حزب الله، وبعد سقوط الأكثريّة النيابيّة عبر إسقاط الغطاء المسيحي نيابيًّا عن سلطة إيران في لبنان، وبعد القطيعة والعزلة العربيّة الإقليميّة والدّوليّة التي نجحت سلطة إيران بجعل نفسها والدّولة اللبنانيّة معها، لم يبقَ أمامها إلّا البطريركيّة اللبنانيّة في بكركي لتقدّم أمامها أوراق اعتمادها.
في هذا السياق تأتي هذه الزيارة التي غُلِّفَت بأوراق تزيينيّة للحوار المزعوم. تحاول هذه المنظمة اليوم عبر بكركي ودعوتها إلى الحوار بين اللبنانيّين انتزاع شرعيّة مؤسّساتيّةً لها لتعود منها إلى باب المؤسّسات اللبنانيّة الذي أقفلته عمدًا لكنّها لم تدرك فداحة ما ارتكبته إلّا بعدما فُتحت عليها أبواب جهنّمات العالم كلّه.
ويخطئ اليوم مَن يظنّ أنّ هذه المنظمة هي بموقع القويّ الذي ما زال يستطيع أن يفرض شروطه؛ ماذا وإلا لكانت فرضت الرئيس الذي تريده وتابعت مسلسل اعتداءاتها العسكريّة والأمنيّة العلنيّة للمزيد من السيطرة على الساحة اللبنانيّة.
لذلك، التخوّف في هذه المرحلة من عودة مسلسل الاعتداءات والاغتيالات الغامضة والمعروفة التوقيع.
لمَن لا يعرف بكركي، أو لبعض ضعفاء النّفوس، بكركي ثابتة في موقفها من كيانيّة وهويّة لبنان الدّولة والمؤسّسات الشرعيّة وأوّلها مؤسّستا رئاسة الجمهوريّة والجيش اللبناني؛ وبكركي مكانتها الدّوليّة والعربيّة هي التي تغني لبنان وتثبّته أكثر في هاتين الأسرتين. ولعلّ هذا ما حاولت انتزاعه منظمة حزب الله من بكركي؛ لكنّها حتمًا فشلت لأنّ بكركي ثابتة لم ولن تتبدّل.