في أول تعليق له على الإتفاق السعودي الإيراني، قال وزير خارجية الولايات المتحدة الأسبق وهو مفكر سياسي مخضرم هنري كسينجر: "الفيل مازال في الغرفة"، ولم يذكر أن باب الغرفة ضيقاً لا يسمح للفيل بالخروج. وهو يرمز بالفيل للملف النووي الإيراني الذي بقي عالقاً في مندرجات الإتفاق.
نجحت المفاوضات التي قادتها الصين في بكين بين الجانبين السعودي والإيراني بعد جولات عدة بقيادة العراق وسلطنة عمان ومع تصفية كل الآمال بإحياء الإتفاق النووي الإيراني الأميركي، ساءت علاقة إيران بالغرب ووقعت واشنطن بين خيارين، مسايرة إسرائيل بتوجيه ضربة عسكرية خاطفة للقضاء على قدرات إيران النووية او الرفض.
ومنذ بداية 2023، بدأ الوقت ينفد والبرنامج النووي يتقدم والضغوط على إيران تتسارع و إرادة الخليج العربي بالتحييد تتزايد.
تعددت الهجمات الإسرائيلية على إيران وسط تحضيرات تنبىء بتطورات عسكرية لا تؤيدها واشنطن، إلا أن إسرائيل تضغط لتنفيذها. وهكذا تأكد الخيار البديل باستخدام القوة الخشنة ما يقرب المواجهة الإسرائيلية الإيرانية. كل ذلك يحدث في وقت تريد دول الخليج توجيه رسالة لإيران أنها ليست طرفا في أي اعتداء عليها وتحييد نفسها عن أي حرب قادمة كي لا تقع ضحية ردة الفعل باستهدافها بالصواريخ والمسيرات.
المفاوضات الثلاثية غير المعلنة
في كواليس الإدارة الأميركية تجري مفاوضات غير معلنة تضم كلاً من الولايات المتحدة، المملكة العربية السعودية وإسرائيل لإقناع الرياض بتطبيع العلاقات مع إسرائيل بشكل رسمي. إلا أن هذه المفاوضات لم تتبلور بالشكل الذي ترتضيه السعودية. إذ وضعت شرطين لإنجاز إتفاق التطبيع مع إسرائيل، الأول امتلاك السعودية لبرنامج نووي مدني والثاني معاهدة أميركية سعودية دفاعية تتعهد فيها واشنطن الحفاظ على آمن واستقرار السعودية إن تعرضت لأي عدوان. قوبل الطلبان بالرفض. أما الشرط النووي قوبل بالرفض المزدوج من واشنطن وتل أبيب خشية الاصطدام بإيران جديدة وهو ما تعتبره إسرائيل خطاُ أحمر على قاعدة أن اي برنامج نووي يبدأ سليما ثم ينقلب لأهداف عسكرية.
وبحسب تسريبات نشرتها صحيفة وول ستريت جورنال بتاريخ 09/03/2023 تم رفض الشرط الثاني أيضا الذي ينص على توقيع معاهدة امنية دفاعية تتضمن اتفاقا قانونيا ملزماً مقابل التطبيع السعودي الإسرائيلي، او تعهد واشنطن بالدفاع والأمن من خلال التسليح السعودي المتطور وتفعيل الأساطيل الموجودة في الشرق الأوسط بمهمة دفاعية معلنة. تحفظت واشنطن على مسألة المعاهدة الدفاعية مبررة ذلك برفضها تكرار الغرق في متاهات الشرق الأوسط والتزاماً باستراتيجيتها التخفيف من التزاماتها الشرق أوسطية.
وبالمقابل جرى طرح ادخال السعودية في حلف شمال الأطلسي كحليف من خارج الحلف مثل مصر والأردن، لكن السعودية رفضت باعتبار أنه بامكانها الدخول مثل تركيا فيما لو جرى توسيع الحلف. والبعض يتحدث عن نقاش داخل الناتو لخروج تركيا ودخول المملكة العربية مكانها عبر حله واعادة إطلاقه من جديد. أبلغت واشنطن الرياض أن مسألة المعاهدة العسكرية قد لا تمر عبر الكونغرس لأن هذا النوع من المعاهدات يتطلب إقرارا في الكونغرس والمودة السعودية الأميركية ضغيفة في هذه المرحلة. تلمست السعودية أن التقارب الإسرائيلي السعودي لن يكون ضمن الشروط المنشودة، فقلبت الطاولة على الجانبين الأميركي والإسرائيلي لتحسين الشروط مستقبلا ولأن جوهر الضغوط عليها قائم من الخطر الإيراني.
وهكذا وضع الإتفاق واشنطن في موقف لا تحسد عليه إزاء دورها وحضورها في الشرق الأوسط. التراجع الأميركي وإدارة ظهرها لأمن حلفائها، دفع بالحليف الأبرز والاقرب إليها بالتقرب من خصمها الأبرز في المنطقة أي إيران ومن منافسها الأبرز على صدارة النظام العالمي الجديد - الصين. كانت إسرائيل من أكبر الساعين لتوقيع اتفاق تطبيع سعودي إسرائيلي يدعمها اقليمياً وعربياً بتوجيه ضربة عسكرية للبرنامج النووي الإيراني. إلا أن الإتفاق وضع حجر عثرة أمامها وأمام حكومة نتنياهو الطامحة لتشكيل تحالف سني يهودي في وجه إيران الشيعية واذرعها الميليشياوية. وبموجب هذا الإتفاق ضمنت إيران إفساد المخطط الإسرائيلي وضمنت السعودية حماية أمنها بالطريقة التي تراها مناسبة في ظل غياب الدور الأميركي الفعلي.
أما الصين حصلت من الاتفاق على مكانة دولية أثارت حساسية واشنطن ولم تثر مخاوفها لأنها تدرك أن الصين عاجزة عن إجبار إيران الالتزام بتعهداتها أمام الخليج العربي. لذا فإن استمرارية الإتفاق تشكل اختبارا لفعالية الاستراتيجية الصينية لتقديم البديل عن واشنطن في النظام العالمي الجديد. بالمقابل، تشكك كل من واشنطن وتل أبيب في جدية إيران تنفيذ بنود الاتفاق مع السعودية لجهة إنهاء الميليشيات الموالية لإيران في لبنان وسوريا والعراق واليمن، في وقت يعتبر تحقيق هذا الشرط بنداً اساسياً للسعودية وهو ما قد يحصل نسبياً في اليمن ويتعقد في لبنان وسوريا والعراق ويبقى البرنامج النووي هو الفيل العالق في الغرفة بحسب كسينجر. قبل وبعد زيارة الرئيس الأميركي جو بايدن في تموز يوليو العام الماضي، رفضت دول الخليج العربي إنشاء حلف عسكري عربي بمشاركة أميركية اسرائيلية او ما يسمى بالناتو العربي الشرق أوسطي. وكانت الإمارات أول من أعلنت انها لن تكون جزءا من اي تحالف عسكري يستهدف اي دولة وخصوصا إيران. وأعادت العلاقات المقطوعة مع جارتها في اب أغسطس 2022 بعد شهر من قمة جدة وزيارة بايدن للسعودية.
القدرات النووية الإيرانية
أسباب عدة بعضها معلن وبعضها غير معلن دفع السعودية للتقارب مع إيران. أرادت السعودية أن تقلب الطاولة على واشنطن وإسرائيل وعلى البرنامج النووي الإيراني ودرء المخاطر عنها. فكل الضغوط التي مورست عليها إنطلاقا من الخطر الإيراني ردت عليها السعودية بالذهاب إلى الحد الأقصى مع الجانب الإيراني للوصول إلى أعلى نسبة من التنازلات الأميركية الإسرائيلية في المفاوضات الثلاثية المفتوحة وغير المعلنة بين الأفرفاء الثلاث.
الخطر الإيراني كان عنوان الضغوط الإسرائيلية الأميركية على السعودية من أجل إقناعها توقيع معاهدة تطبيع مع إسرائيل وتفاهم دفاعي أمني مشترك. خصوصا أن واشنطن وتل أبيب تعتبران أن عودة العلاقات ليست كافية كي يعم السلام والأمن في الشرق الأوسط، لأن المشكلات الثنائية أعمق واعقد من مجرد ضمانات صينية للإتفاق. لذا فمن المبكر لأوانه الحديث عن نهاية الأزمات والمشاكل في الشرق الأوسط. قد لا تريد قوى دولية منها الولايات المتحدة إسرائيل ودول أوروبية عودة هذه العلاقات ولكنها تعتبر ان هذا الإتفاق لن ينجح لسببين:
- الأول لأن لا ثقة نهائيا بين الجانبين.
- الثاني لأن المشكلة بينهما أعمق مما ورد في بنود الإتفاق. وفي الوقت نفسه، تنظر هذه الدول للإتفاق بوصفه نقلة تكتية وليس إستراتيجية باعتبار أنه يندرج في سياق المسار الطبيعي الديبوماسي للعلاقات بين أي دولتين. فالعلاقات الديبلوماسية قائمة دون إنقطاع بين روسيا وأوروبا والصين والولايات المتحدة برغم الخلافات بينهم. بناء عليه، كل مؤشرات التهليل والابتهاج للإتفاق هي رهن المرحلة القادمة إن نجح بحل المشاكل، وقد لا ينجح وتعود الأزمة الإقليمية إلى نقطة الصفر.
إختناق دولي واسع واكب هذا الإتفاق. اختنقت إيران من الضغوط الدولية عليها ومن التهديدات الإسرائيلية بضرب برنامجها النووي. واختنقت الصين من الحرب الروسية الأوكرانية الدائرة على مقربة منها ومن آثار العقوبات والأزمات الدولية على تباطؤ نموها الإقتصادي مفتاح تقدمها العالمي. واختنقت السعودية من فشل المفاوضات حول البرنامج النووي الإيراني منذ عام 2015. واختنقت كل من الولايات المتحدة وروسيا وأوروبا من التزاماتهم الداخلية وضغوط الحرب في اوكرانيا. واختنقت إسرائيل من محاولاتها اقناع واشنطن بضربة عسكرية تهدف لإيقاف تقدم إيران النووي.
إن نجاح الإتفاق سيؤدي إلى انفراج سياسي واقتصادي في الشرق الأوسط وسيكون أحد أهم التطورات التي تشهدها المنطقة منذ عام 2011 تاريخ اندلاع أحداث ما يسمى بثورات الربيع العربي. ويبقى السؤال، هل من يصدق ان إيران ستقطع يدها بنفسها او ستسمح بقطعها عبر إنهاء أذرعها من الميليشيات الممولة منها أم هل سيبقى الفيل طويلاً في الغرفة؟.