انقشع ضباب الفتنة بالسودان - إلى حد ما - وبدأ البعض يشير إلى الطرف الثالث الذي أطلق الرصاصة الأولى للاقتتال بين الجيش السوداني بقيادة عبد الفتّاح البُرهان وقائد قوّات الدّعم السّريع محمّد حمدان دِقلو المُلقّب بحميدتي،و تورط الكيزان (الاسم الذي يطلقه السودانيون على جماعة الإخوان المسلمين) في الحرب والعودة للسلطة بإشعال الفتنة بين الجيش وقوات الدعم السريع بهذا البلد الأفريقي.
الرئيس المعزول عمر البشير ونظامة أسس قبل ثلاثين عامًا كياناً لدولة عميقة ثوابتها الاسلام السياسي وقام بتقديم الدعم المالي واللوجستي لمعظم الجماعات الارهابية، ودعم التطرف والعنف واستقبل زعيم تنظيم القاعدة الارهابي أسامة بن لادن في عام 1991 ومغادرته على متن طائرة عسكرية إلى جبال أفغانستان في عام 1996 .
هروب البشر وقيادات نظامه
للرئيس المعزول عمر البشير قادة ورجال داخل الجيش حتى يومنا هذا، يعبرون ما يدور في الخفاء ودورهم بارز في الحرب بين الجنرالين وثمة من يقول: إن ما يحدث في السودان انقلاب عسكري بتدبير الكيزان - الإخوان، لكي يزيلوا أكبر خطرعليهم يمثله قائد قوّات الدّعم السّريع محمّد حمدان دِقلو وقواته، بدعم من ضباط منتمين للحركة الاسلامية.
ومع انتشار أخبار عن فرار الرئيس المعزول عمر البشير في ظلّ فوضى عارمة وتواصل الاقتتال والسقوط العشوائي للقذائف، كشفت مصادر سودانية موثوقة هروب الرئيس المعزول عمر البشير ونائبه علي عثمان طه من سجن كوبرعلى متن مروحيّة عسكرية برفقة عدد من قادة النظام السابق.
تصريحات متناقضة حول الإتفاق الإطاري
وفي الإطار نفسه، يقول الكاتب الصحافي والمحلل السياسي السوداني محمد جميل أحمد لـ "جسور": جوهر الخلاف يتصل في الموقف من الانتقال الديمقراطي بين قائد الجيش عبد الفتّاح البُرهان وقائد قوّات الدّعم السّريع محمّد حمدان دِقلو المُلقّب بحميدتي، وعنوانه الظاهر خلاف على مواقيت الدمج والإصلاح والتحديث في عملية الاصلاح الأمني والعسكري ضمن بنود الاتفاق الإطاري (وهو الاتفاق الذي تم اعتماده كحل سياسي للأزمة السودانية متفق عليه إقليمياً ودولياً) لقد ظل البرهان يطلق تصريحات متناقضة حول الموقف من الاتفاق الإطاري الذي يقضي بخروج العسكر من السلطة وتكوين حكومة مدنية، أما حميدتي فظل على موقفه الجازم من الاتفاق الإطاري.
مراوغة وتدخلات
وأضاف أحمد:"أسفرت الضغوط الكبيرة من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي على"حميدتي" إثر زيارة الأخير لموسكو يوم 24 فبراير عن تحول حقيقي في موقف حميدتي نحو تأييد الاتفاق الإطاري، فيما ظل البرهان الذي تربطه صلات قوية بعناصر من نظام الإخوان المسلمين داخل الجيش يرواغ في الموقف من الاتفاق الإطاري.
وحين أدرك البرهان حقيقة موقف حميدتي الداعم للانتقال الديمقراطي اتخذ من الخلاف على مواقيت بنود علمية الاصلاح الأمني والعسكري القاضية بدمج الدعم السريع في الجيش سبباً لإشعال الحرب، وبطبيعة الحال لم يكن ذلك الخلاف الثانوي بين الطرفين في مواقيت عملية فنية للدمج، مبرراً بأي حال من الأحوال لاندلاع تلك الحرب بهذه الفظاعة التي تم بها تفجير الخرطوم، مما يدل على أن السبب الحقيقي بين الرجلين ليس خلافاً فنياً حول عملية الدمج وإنما على الموقف من الانتقال الديمقراطي برمته بين مؤيد له ومعارض.
الإخوان يعودون
ويتابع أحمد: " منذ ثلاثين سنة تمت أدلجت القوات المسلحة وتسييسها بإيديولوجيا الاسلام السياسي منذ أن انقلب الاخوان المسلمون بقيادة البشير على الحكومة الشرعية الديمقراطية في العام 1989 حيث تمت عملية التمكين داخل الجيش لعناصر الاخوان المسلمين عبر إحلال "أهل الولاء محل أهل الكفاءة وتعيين كثيراً من الأفراد برتب عليا داخل الجيش" كضباط من دون مؤهلات إلى جانب إحالة كثيرين من الضباط المتمكنين في الجيش السوداني وبالتالي أصبحت هذه القوات اليوم أقل كفاءةً فنياً وأبعد من أن تكون ذات عقيدة قتالية وطنية، بدليل أن الدعم السريع الذي هو بمثابة جيش موازٍ لجيش الدولة خرج من رحم القوات المسلحة، فالضباط المنتدبون في الدعم السريع من القوات المسلحة هم الذين تولوا تدريب عناصر الدعم السريع منذ 10 أعوام وبالتالي في ظرف معقد كهذا من الصعوبة بمكان القول إن في وسع القوات المسلحة أن تحصد حسماً سريعاً لهذه المعركة ضد الدعم السريع.
خطة لإفشال الاتفاق السياسي
وأوضح محمد جميل أحمد: لم تسلم كل الهدن من الخروقات، والطرفان يحشدان لبعضهما البعض، لكن من الواضح جداً أن الذين اتخذوا قرار الحرب هم حفنة قليلة من ضباط الاخوان المسلمين داخل الجيش، فكبار قادة الجيش لم يكن لهم علم بقرار الحرب بدليل أن الجيش لم يطلق عملية استعداد ولو بنسبة 10% قبل الحرب ما يعني أن الغالبية في الجيش لم يكونوا على علم بقرار الحرب، والدليل على ذلك أن قوات الدعم السريع أسرت أكثر من 140 ضابطاً كبيراً بين فريق ولواء وعميد (بمن فيهم المفتش العام للجيش وهو المنصب الثالث) في اليوم الأول من الحرب.
إنقلاب القيادات الأخوانية
وبحسب التقديرات فما حدث هو انقلاب من عناصر إخوانية داخل الجيش لقطع الطريق على الانتقال الديمقراطي عبر تنفيذ الاتفاق الإطاري، ولأن هذه العناصر أدركت اعتراض حميدتي على مثل هذه الخطوة ودعمه للاتفاق الإطاري فرأت في حميدتي عقبة أمام طريقها لاستعادة السلطة بالقوة. وأكبر دليل على ذلك اليوم هو إطلاق كبار قادة النظام السابق (ومنهم مطلوبون للمحكمة الجنائية الدولية على خلفية جرائم حرب وإبادة جماعية كأحمد هارون) الذي فور خروجه من السجن أذاع بياناً نقلته قنوات الأخبار أعلن فيه تأييده للجيش في حربه ضد حميدتي.
تدهور الوضع الإنساني
أما عن المعاناة الإنسانية والنزوح من جراء الحرب والاقتتال يقول محمد جميل أحمد: "يتوجه الشعب السوداني للمجتمع العربي والإقليمي والدولي بطلب واحد فقط هو إيقاف الحرب واستخدام الأوراق والضغوط التي في وسع المجتمع العربي والدولي استخدامها لاضطرار قائدي الحرب للجلوس إلى طاولة المفاوضات بأسرع وقت وذلك ما يتمناه كل سوداني مع التعويل على المفاوضات بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع التي ستعقد قريبا في المملكة العربية السعودية.
وشدد أحمد على أن الجيش والدعم السريع يركزان الصراع في الخرطوم وحول مبنى القيادة العامة للجيش حيث يوجد الجنرال البرهان بالقرب من مقر القيادة العامة للجيش مقر الدعم السريع، لذا فالطرفان يعولان على أن من يحسم المعركة في الخرطوم هو الذي سيكسب رهان الحرب، ما عدا ولايات دارفور (غرب السودان) التي تشهد صراعاً بين الجيش والدعم السريع نظراً لعودة أصول عناصر الدعم السريع إلى منطقة دارفور، أما بقية الولايات في الشرق الشمال والجنوب فهي مستقرة لأن الدعم السريع سحب قواته منها وتحركت لإدارة المعركة في الخرطوم.
روايات متضاربة
وعن تسليم أعداد كبيرة من أفراد قوات الدعم السريع أنفسهم للقوات الجيش، أوضح محمد جميل أحمد :" الروايات متضاربة حول استسلام أي من الطرفين لذا من الصعوبة بمكان تأكيد ذلك لكن غالبية المناطق والارتكازات في الخرطوم تخضع لقوات الدعم السريع إلى جانب سيطرتهم على بعض القواعد والمناطق العسكرية في الخرطوم كقاعدة جبل اوليا العسكرية، ومجمع التصنيع الحربي ومطار الخرطوم.
وكشف محمد جميل أحمد عن أن الفريق عبد الفتاح البرهان قائد الجيش والفريق حميدتي قائد الدعم السريع كانا يشتركان في استثمار وانتاج الذهب وتهريبه عبر قنوات غير شرعية وكذلك في التعاون مع الروس ومع شركة فاغنر والجيش السوداني هو الذي وافق على انشاء قاعدة بحرية للروس على البحر الأحمر (شرق السودان) وكان البرهان قد نفى في حوار له مع قناة العربية أن يكون لشركة فاغنر أو لحفتر تدخل في الصراع بينه وبين حميدتي.. الدعم السريع له علاقات إقليمية معروفة فقد قاتل جنوده في اليمن وكذلك في ليبيا وفي كل الأوضاع التي كانت ترتب لانخراط الدعم السريع في قتال خارجي كان ذلك يتم باتفاق كل من حميدتي والبرهان جميعاً.
والملاحظ أن الأطراف الإقليمية والدولية تتواصل مع الطرفين بسوية واحدة في هذه الحرب وليس هناك أي تأثر في المجتمع الدولي والإقليمي بالوصف الذي تطلقه القوات المسلحة على الدعم السريع كقوة إرهابية أو غير شرعية فكل الشخصيات السياسية الدولية كوزير الخارجية الأميركي والأمين العام للأمم المتحدة ووزراء خارجية المنطقة تتواصل مع كل من حمديتي والبرهان بسوية واحدة ولا اعتقد أن لقوات الدعم السريع أجندات خارجية وإلا لما كانت لترضى القبول بالدمج في الجيش الوطني، وكان تنسيقها متناغماً طوال 10 سنوات مع الجيش.
ورجح أحمد أن تكون هناك أطراف اقليمية وعربية تؤيد الجيش وأخرى تميل للدعم السريع، وهناك تواصل من الجامعة العربية مع الجيش بوصفه هو الذي يتولى إدارة البلاد منذ انقلاب الجيش بقيادة البرهان ومعه حميدتي على الحكومة المدنية لرئيس الوزراء د. عبد الله حمدوك في 25 أكتوبر 2021 .
زعزعة الإستقرار
ورأى أحمد أنه في حال لم يصار إلى حل سريع بضغط من المجتمع العربي والدولي على الطرفين لإيقاف الحرب بأسرع وقت فإن تداعياتها ستكون لها عواقب وخيمة داخل السودان بتحول الحرب - مع اتساع رقعتها وطول أمدها - من عنف سياسي إلى حرب أهلية، وخارج السودان ستكون سبباً في اهتزاز المنطقة من شرق أفريقيا إلى غربها ودخولها في فوضى نظراً للموقع الجيوستراتيجي للسودان ونظراً لخلفيات محتملة لامتداد الصراع الروسي الأميركي الصيني في وسط أفريقيا وشرقها وهذه كلها محاذير يكترث لها المجتمع الدولي آملاً في أن تكون سبباً بالإسراع بالحل السلمي.