زلزالُ شُباط المدمّر، حِراكٌ دبلوماسيّ عربيّ ودوليّ لحلّ الملفّ السوريّ، تلاهُ انهيارٌ اقتصاديّ أشعلَ انتفاضةَ السويداء، وصولاً إلى عودَة الفوضى الأمنيّة على كل الأراضي السوريّة..ذلكَ بعضُ ما شهدتهُ سوريا في العام 2023..
ماذا عن العامِ المُقبِل 2024؟ هَل سيكُون عاماً آخر من الجوعِ والفقر والدمّ أم ستظهَر بوادِر الحلُول؟! ماذا عن تصاعُد المواجهة الأميركيّة الإيرانيّة على "الملعَب السوريّ"!
كارثَة الزلزَال وتعويمٌ عربيّ للأسد
لَم يكُن ينقَص المأساة السوريّة الممتدّة منذُ أكثر من عَقد، سوَى بدايَة العام 2023 بكارثة طبيعيّة، حيثُ ضربَ زلزالٌ مُدمّر تركيّا وشمال سوريَا في الوقتِ ذاتِه في شهر شباط، ما أحدثَ أضراَراً جسيمَة بالبنيَة التحتيّة لعدّة محافظات سوريَة في إدلب وحلب إضافةً إلى اللاذقيّة وطرطوس وحماه..والحصيلة البشريّة أكثر من ستَة آلاف شخص فقدوا حياتَهم وإصابة آلاف آخرين بجُروح، إلى جانِب الخسائِر الماديّة الّتي بلغَت أكثر من خمسَة مليارات دولار..ما جعلَ الوضع المعيشيّ والاقتصاديّ يزداد سوءاً لمُختلَف سكّان سوريا.
أوجدَت كارثةُ الزلال تعاطفاً عربياً من مُختلف الدوَل الّتي سارعَت مُعظمهَا إلى المساعدَة، كذلِك أوقفت الولايات المتحدّة الأميركيّة "مؤقتاً" بعض العقوبات المفروضَة على النظام السوريّ لتسهيل دخول المساعدات الإنسانيّة..
و لأنّ "مصائبُ قومٍ عندَ قومٍ فوائدُ" استفادَ الرئيس السوري بشار الأسد من تلكَ المُعطيات للعودة إلى "الحُضن العربيّ" المتمثّل بجامعة الدول العربيّة، حيثُ استعادَت سوريا رسمياً مقعدهَا بعد حظرِ عضويّتها منذُ 12 عاماً منذُ انطلاق الانتفاضَة السوريّة،
وشاركَ الأسد في شهر أيّار بالقمّة العربيّة في جدّة السعوديّة، والّتي أكّدت في بيانها الختامّي ضرورَة حلّ الأزمة السوريّة عبر مُعالجةِ تداعيَات اللجوء ووقف تهريب المخدّرات ومُحاربة الإرهاب عبرَ تعزيز التعاون العربيّ المُشترك، أو فيما يُعرف بسياسة "الخطوَة بخطوَة" بين العَرب والأسد.
لكِن يبدو أنّ خطوَة تعويم الأسد "عربياَ" منقُوصة، حيثُ لم تُقابَل منه بخطوات عمليّة نحوَ حلّ المشاكل العالقَة لأسبابٍ عديدة تتخطّاه كَارتباطُ قرارِه بحلفائِه روسيا وإيران، فَتزامنَ وقتُ مشاركتهِ بالقمّة العربيّة بأوّل زيارة لرئيس إيراني لسوريا منذُ 13 عاماً، وزارَ ابراهيم رئيسي دمشق بشهر أيّار ليتمّ توقيع مذكّرة " تفاهُم لخطّة التعاون الشامل الاستراتيجيّ طويل الأمَد" بين البلدين، عبرَ إبرَام سلسلَة اتفاقات في مجالات الطاقَة والزراعة والاتصالات والنقل، وإرسال رسائل سياسيّة من إيران للمحيط العربيّ والدول الغربيّة بأنّ النفوذ الإيرانيّ ما زالَ مؤثراً على الوضعِ السوريّ، وأنّ أي حلّ للازمة السوريّة وأيّ اتفاق مع النظام يجب أن يمرّ عبرَ طهران.
جولَات دبلوماسيّة تلاهَا انهيار اقتصاديّ !
وفقاً لذلكَ السّياق كانت الأمور تبدو لصالِح "تعوِيم" الأسد عربياً ودولياً عبرَ كسر عزلتهِ، فقامَ بزيارةٍ رسميّة للإمارات العربيّة المتّحدة في شهر آذار، وأُخرَى إلى روسيا بالشهر ذاتِه، حيثُ التقى رئيسها فلاديمير بوتين، كذلِك غادرَ إلى بكّين وقابلَ الرئيس الصينيّ شي جينبينغ بشهر أيلول الفائِت.
وفي حِين ترّقبت الأوساط الدوليّة عودَة مسار "تطبيع العلاقات الروسيّة التركيّة" برعاية روسيّة، لكِن لم يحصَل ذلِك، واقتصرَ "اللقاء السوريّ التركيّ" في اجتماع وزراء الدفاع ورؤساء المُخابرات في تركيّا ورسيا وإيران وسوريا في روسيا بشهر نيسان، ولَم تُفلح مساعِي موسكو لتطبيع العلاقات بين البلدين، ليبقى ذلكَ الملفّ مجمداً.
ورغمَ ذلِك لم تجرِ ريّاح الدبلوماسيّة تِلك كما يشتِهي الأسد، فداخلياً بدأَ النصف الثانِي من السنَة يُشير إلى تصاعُد الأزمة الداخليّة المعيشيّة، فارتفعَ سعر صرف الدولار الأميركيّ مقابل الليرة السوريّة "وصلَ بنهاية العام إلى 100 بالمئة عمّا كان عليه في بدايتِه"، ورُفعَ الدَعم عن المحروقات بشهر آب، لتعود الأسعار للارتفاع وتنقَص القوّة الشرائيّة للمواطن السوريّ وزادّت مُعدلّات التضخّم.
قابلَت حكومَة النظام السوريّ ذلِك التطوّر برَفع رواتب الموطفّين والعاملين فيها بنسبَة مئة بالمئة في منتصَف شهر آب، لكِن لَم يُكتَب لهذهِ "المِنحَة" النجاح على صعيد معيشَة السوريّين على أرضِ الواقِع بَل زادَت معدلّات الجوع والفَقر.
المؤشّرات الاقتصاديّة تدلّ على عامٍ جديد متجدّد لتصاعُد الفقر في سوريا، حيثُ أعلنَ "برنامِج الغذاء العالميّ" عن انتهَاء المُساعدات الغذائيّة بكلّ أنحاء البلاد في كانون الثاني المُقبِل، وذلِك بسَبب أزمة التموِيل التي أدت إلى تقليص برنامِج مساعداتِه.
وكانَت البرنامح الأممّي أعلن عبرَ مسؤوليه عن أرقامٍ صادِمة عن الوضعِ السوريَ، فيؤكّد أنّ 90 بالمئة من سُكاّن سوريا باتوا تحت خطّ الفقر، إضافةً إلى 12,4 مليون سوريّ يُعاني من "انعدام الأمن الغذائي"، أي ما يزيد عن نصف عدد السكان..ومع تلكَ الإحصاءات تؤكّد المنظمّة الدوليّة عن وجود 2,9 مليون نسمة يقتربون من حافة المَجاعَة، ما يُشير إلى أنّ عام 2024 المُقبل سيكُون "عام المجَاعة السوريّة" وفقاً لمحلّلين اقتصاديّين.
انتفاضَة السويدَاء وتصاعُد الأحداث الأمنيّة
الوضع الاقتصادي المتردّي في سوريا عموماً وبمناطق النظام السوريّ خصوصاً، أدّى لخروج انتفاضَة شعبيّة بمحافظة السويداء في جنوب البلاد في شهر آب، حيثُ بدأت الاحتجاجات على الأوضاع المعيشيّة والفساد الحكوميّ ثمّ تحوّلت بسرعة إلى شعارات مُطالبَة برحيل النظام وإيران وأذرعهُ مثل حزب الله اللبنانيّ من المنطقة، والمطالبة بتطبيق قرار الأمم المتحدّة 2254 .
انتفاضةُ السويداء الباب أمام توالِي أحداث أمنيّة هزّت معظم المناطِق السوريَة، حيث شهدت محافظة دير الزور بشرق البلاد اندلاع اشتباكات عنيفَة بين قوات سوريا الديمقراطيّة "قسد" والعشائر العربية ، وذلكَ إثرَ عزل قسد لقائد مجلس دير الزور العسكريّ التابع لها، في منطقة تُعتبر تحت نفوذ قوّات التحالف الدوليّ الذّي تقودهُ الولايات المتحدّة الأميركيّة.
كذلِك حصلَ تطوّر لافِت وغير مسبوق في محافظة الحسكة، حيثُ حصَلت اشتباكات بين العشائر العربيَة المحليّة وميليشيا الدفاع الوطنيّ "المدعومة من إيران" في المربّع الأمني بمدينة القامشلي، وذلكَ بعد رفض قائد الميليشا عبد القادر حمّو قرار إقالته من منصبه كقائد لـ"الدفاع الوطني" في الحسكة، إثر إهانته واعتدائه على شيخ قبيلة "الجبور"، فحصلت تلك الإقالة بعد دخول قوات من الجيش السوريّ التابع للنظام بضغطِ روسيّ وتحفّظ إيراني، وذلك ما يُعطي مؤشراً لخلَل ما في العلاقة بين الحُلفاء الثلاثة "دمشق، طهران، موسكو".
من جهةِ ثانيَة، تصاعدَ التوتَر بين تركيّا وقسد، حيث ضربَت القوّات التركيّة عبر المسيّرات مواقع لقوّات سوريا الديمقراطيّة رداً على ما أسمتهُ أنقرة الاعتداء على المصالح التركيّة في بلدِها والعراق.
وأكبر حدث أمنيّ عاشتهُ سوريا كان في وسط البلاد بمدينَة حمص في شهر تشرين الأوّل، حيثُ لقيَ حوالي 89 شخصاً على الأقل حتفَهُم "بين ضبّاط وعلائلاتهم المدنيّين" وأصيب 227 آخرين بجروح، في هجومٍ "لَم تُعرف جهتُه فعلياً" استهدف الكليّة الحربيّة بوقتِ تخريج دُفعة جديدة من الضبّاط.
أدّى ذلِك إلى تصعيدٍ عسكري بشهر تشرين الأوّل في محافظة إدلب وريفها بعد هجومٍ قامَ بهِ الجيش السوري مدعوماً بحليفِه الروسيّ على تلكَ المناطق.
مواجهة أميركية إيرانيّة في سوريا عام 2024!
تزامناً مع حرب غزّة ومع تطوّر الأحداث الاقتصاديّة والسياسيّة والأمنيّة في سوريا، استمرّ القصف الإسرائيليّ على أهدافِ للجيش السوريّ و على قوّات مُرتبطة بإيران كالحرس الثوريّ وحزب الله، وأعلنت حكومة النظام السوريّ بسبب الضربات الإسرائيليّة، خروج مطاريّ دمشق وحلب عن الخدمة لعدّة مرات في الأشهر الثلاثة الأخيرة من عام 2023.
بالمقابِل نفّذت مجموعات مُرتبطَة بإيران في شرق سوريا وشمالها، هجماتٍ متفرّقة على القواعد الأميركية في شرق البلاد، وردّت القوّات الأميركيّة بضربِ تلكَ القوَات، كذلِك أعلنت وزارة الدفاع الأميركيّة "البنتاغون" استهداف الحرس الثوريّ الإيراني بأكثر من مكان.
تلك المواجهَة الأميركيّة –الإيرانية التّي كانت "غير مُباشرة" عبرَ حروب الوكالة بين الطرفين، أصبحَت مواجهَة واضحَة بينهمَا على "الملعَب السوريّ".. وفي نهاية العام "25 كانون الاوّل" شكلّ مقتَل العميد بالحرس الثوريّ الإيراني "رضى موسوي" علامَة فارقَة في السياق نفسه، حيثُ تلقى النفوذ الإيرانيّ في سوريا ضربةً قاصِمة، وذلكَ لمَا كان لموسوي دورٌ كبير عبرَ سنوات في التأثير على القرار السوريّ الأمنيّ والسياسيّ، إضافةً لدورهِ بالتنسيق بين طهران ودمشق وحزب الله اللبناني فيما يسمّى"محور المقاومة والممانعَة".
ومع دخُول سوريا العام الجديد على وقعِ تهديد المجاعَة القادمَة، وعودَة "التفلّت الأمنيّ"، تُشير المُعطيات السياسيّة والدوليّة في عام 2024 إلى حصول "مواجهة مُباشرة" بين إيران حليفة النظام السوري وروسيا وحتّى الصين من ناحيَة، مقابلَ أميركا وحلفائُها من ناحيةٍ ثانية، وذلكَ ما سيؤدّي إن حصل ربما إلى حرب إقليميّة مُرتبطة بمُستقبَل الحدث الفلسطينيّ بغزّة، وما سيحصَل في العراق ولبنان واليمن أو ما يسمّى "وحدة الساحات" المرتبطَة بطهران التّي يبدو أنّ "الصبر الإستراتيجيّ" لها بدأ ينفَذ..
فهَل سيخبّى عام 2024 مزيداً من سفكِ الدماء السوريّة واستمرار التشرذُم المناطقيّ والسياسيّ في البلاد؟ ربمّا ستشهدَ الفترة المقبلة "خلطاَ للأوراق" بين الأطراف المُتحاربَة سواء المحليّة والإقلميّة والدوليّة، ما يؤدّي إلى تصاعُد حدّة المواجهة الاميركية الإيرانية في سوريا بهدَف تقليص نفوذ طهران بالمنطقة.