(أَعدُ أمامَ رفاقِي أن أبذُلَ جُهدِي في أن أكونَ طليعياً مِثالياً، وأن أقومَ بواجِبي نحوَ الوَطن والحِزب والقائِد، وأعملَ بقانونِ الطلائِع وأفعلَ خيراً كلّ يَوم...) هكذاَ هوَ ما يسمّى “الوعد الطليعيّ" الّذي يردّده الطالِب السوريّ في مدارس سوريا منُذ خمسينَ عاماً حتّى وقتنَا الحاضِر في مُعظم المناطِق.
إنّه عَهدٌ بمثابَة "قَسَم" يقطعه الطِفل على نفِسه أمام رفاِقه عند انتسابِه لمنظّمة "طلائِع البعث" يعبّر من خلالِه عن التزامِه بأهدافِهَا.. لكِن، هل يوجَد طفِل في العالم "مثاليّ" ويفعَل خيراً كلّ يوم"؟! ربّما فقط الملائِكة من تقدِر على ذلِك.
ما هو واقِع التعليم في المدارس السوريّة في مُختلَف الأراضِي السوريّة سواء بالماضِي أو الحاضرِ؟ كيفَ حالُ المناهِج الدراسيّة والكوادر التدريسيّة أو البُنية التحتيّة وغيرها؟
لماذَا التركيز على العربيّة في الماضِي؟
(حينَ كنتُ بالصف السابع بالمرحلة الإعداديّة، وفي ذلكَ الوقِت يُفصَل الذّكُور عن الإنَاث حتّى سنّ الثامنَة عشرة ما أدّى لاحقاَ لمِشكلَة الكَبت الّتي واجَهت مُعظم الأجيال السوريّة.. لا أنسَى وقتَها ذلكَ المشهَد الكوميدي المآساويّ من طفولتِي بالمدرسَة في عام 1999، حيثُ كنتُ وزملائي في الصفّ حوالي 50 طالباً ذكراً مترّاصين بجانِب بعضِنا البعض، نُعانِي من بردِ الشتاءِ القارص ولا توجَد تدفئة بالمكَان، في مدارسَ أشبَه بالسُجون، نرتدي الزي العسكريّ بكامِل عتادِه، وذلكَ في حصّة اللّغة الإنكليزيّة نتلقّى درس الأحرف الأبجديّة "A,B,C.." ثمّ تُعلّمنا الآنسَة بلكنَة إنكليزيّة-سوريّة أغنية "if you're happy and you know!! "، فنردّد وراءها بصوت المُراهق الأجشّ وبصُراخ وفوضَى بالمكان مع ضرب أحذيتنَا العسكريّة بالأرض وكأنّنا في ثكنَة حربيّة!
تلك الأغنيَة المعروفَة الّتي تعلّم في الدول العربية والعالم للصغار دون سنّ الخامِسة ونحنُ نتعلّمها بعمر الرابعَة عشرَة! ولا أنكُر أنّي كنتُ سعيداً بحفظها فردّدتها أمام ابن عمّتي الذّي كان يَدرُس في السعوديّة، فضحكَ على ذلِك وسخرَ من لكنتِي الإنكليزيّة.. حينَها وباجتهادٍ شخصيّ قرّرت تعلّم الإنكليزيّة وحدِي ولاحقاً شكّل ذلكَ حافِزاً لي ودرست الأدب الإنكليزيّ بالجامعة وأصبحتُ مدرساً لكِي أصحّح للطلّاب طريقة الكلام والتهجئة وأضفتُ أساليبَ تعليمٍ جديدة. لكِن للأسف الاستجابَة منهُم كانت ضعيفة، فلا يُصلح العطّار ما أفسدهُ الدهر) ذلكَ ما قالهُ أحمد لـ "جُسور" إسم مُستعار، 45 سنة، مدرّس اللغة الإنكليزيّة بإحدى مدارس العاصمة دمشق".
ومن المعروف أنّ التعليم في سوريَا في المدراس "الابتدائيّة والإعداديّة والثانويّة" يركّز على اللغة العربيّة في مناهج التدريس، حيثُ أن اللغة الأجنبيّة يبدأ تعليمُها في سنّ العاشرة، ويضيف أحمد حول السبب (سيطرة حزب البعث العربي الإشتراكي على سوريَا سبَب تقدّم أولويّة اللغة العربيّة عن سواهَا، لأنّ من المبادِئ الرئيسيّة للحزِب هو الوحدة العربيّة وما إلى ذلِك.. وبسبَب تلك الإيديولوجيَة الإجباريّة للبعث تشرّبت عقُولنا نحنُ جيل السبعينات والثمانينَات تلكَ الأفكار وأصبحنَا مُنعزلين لاحقاً بسبب ضُعف لغتنا الأجنبيّة حينَ دخلنَا سوقَ العمل سواء في بلدنا والخارج خصوصاً في الدول العربيّة الّتي تعلّمنا بطفولِتنا أنها واحدة! والفسَاد والمحسوبيّة هيَ مثلاً الّتي تحدّد دراستك لغتَك الأجنبيّة، فإذا كنتَ تملِك "واسطة" تدرس الإنكليزيةّ منذ الصف الخامس، وإن لم تملِكها فسوفَ تُجبر على تعلّم الفرنسيّة غير المرغوبة في حينَها وعدد طلّابها قليل بالمدارس بالماضي).
والجدير بالذِكر أنّ الرئيس السوري السابِق حافظ الأسد استنسَخ تجربَة "النموذَج الكوري الشماليّ" لتأسيس منظّمة طلائِع البعث واتحاد شبيبّة الثورَة وسواهُما، وذلكَ حينَ زار كوريا عام 1974 والتقى بزعيَمها السابِق كيم أيل سونغ وأُعجبَ بنهَج وهيكليّة المنظمّات الطلابيّة في المدراس الكوريّة الشماليّة.
تعلِيم مجانّي وتعنِيف للطِفل السوريّ!
من جهةٍ أُخرَى، يرَى البعض أنّ مجانيّة التعليم في سوريا أتاحَت لأجيالٍ مُتعاقِبة أن تحصل على قسِطٍ كبير من مناهِج دراسيّة متنوّعة وغنيّة بأسعار شبِه مجانيّة، ويقول ثائِر عمّار لـ "جسور" 50 عام، مدرّس لغّة العربيّة بإحدى المدارس الحكوميّة " إنّ انتقاد الدولَة على جوانِب مثل إجبار الطالِب على اللغة العربيّة فقط هو كلام مردُود عليه، فمنذُ فترة الستّينات وصولاً إلى مطلع القرن الحاليّ، رفدتَ سوريا عبر برامج حكوميّة مدروسة العديد من الأساتذَة السوريّين إلى مُختلف أرجاء الوطن العربيّ لتعليم اللغة العربيّة الأصيلة، وذلكَ موثّق وموجود في بلاد عربيّة شقيقة مثل اليَمن والخليج ودول المغرب العربيّ وغيرها..
ومن ناحيَة ثانيَة المواطن السوريّ معروف بقوّة لغتهِ الأمّ، والدليل هو أنّ أبرز الكُتّاب والشُعراء العرب مثل نزار قبّاني وأدونيس وغيرهم هم سوريّون، كذلِك نُلاحظ مثلاً أنّ الدراما العربيّة الّتي اشتغلَت أعمال تاريخيّة ناجِحَة وناطقة بالعربيّة الفُصحى هيَ سوريّة بحتَة سواء من حيث الممثّلين والكتّاب والمُخرجين.
بالمقابِل، ترى رِحاب "اسم مُستعار، 36 سنة، تعمل مُرشدة اجتماعيّة في مدرسة خاصّة بحمص" أنّ المُشكلة الأساسيّة للتعليم في سوريا هو التعنِيف والضَرب المُبرح للطفل منذُ دخولِه المدرسة بعُمر الستّ سنوات، مضيفةً: ( يتعرّض الطالب السوريّ للضرب من قبِل الأساتذة والموجّهين والمُدراء على أهون الأسباب وأتفهها، فمثلاً أذكرُ أنّي كنت أتأخرّ يومياً تقريباً على مدرستي الّتي تبعُد حوالي 3 كيلومترات عن منزلي وأذهبُ إليها مشياً على الأقدام، وذلكَ بسبب فقر حال عائلتي كما مُعظم العائلات السوريّة وعدم قُدرتهم على دفع تكلفة المواصلات، وحينَ أصِل أجِد على الباب مجموعة من الطلّاب المتأخرّين مِثلي، في السّاعة السابعة صباحاً في البرِد، ويستقبِلنا المُدير ويضرُبنا بعصَاه الغليظة مثلهُ بِضربَات مُوجعَة وكنّا نتألّم بشدّة ولا نستطيع حتّى الكتابة بأصابعِنا المتورّمة! وذلكَ ما أثّر على نفسيّة ملايين السوريّين لاحقاً.. وهوَ ما يفسّر برأيي كميّة العُنف الّتي خرجت للعلّن مع بدء الأحداث بسوريا عام 2011 وذلك أمر طبيعي.. لكلّ فعل ردّة فعل.. أضِف إلى ذلِك أنّ الطبقة الفقيرة كانت لا تستطيع مجارَاة الأغنياء، فكان مثلاً ابن الضابط وابن الآنسة والمديرة وما إلى ذلك من أصحاب الواسِطَات هم فقط من يستفيدون فعلياً من مجانيّة التعليم.. والدليل على ذلك أنّ راتِب الموظّف الحكوميّ لا يتجاوز بالماضي الخمسَة آلاف ليرة سوريّة-حوالي 100 دولار- فكيفَ يستطيع تغطيَة تكاليف اللّباس المدرسيّ والقرطاسيّة إلخ.. وكذلك المصروف اليوميّ لأطفالهِ! ناهِيك عن فساد وسرقَة مدراء المدارس ومسؤوليّ التربية لأموال الدولة المخصصّة للتعليم فقط لانّهم بعثّين حزبييّن." تقول رحاب ذلِك بحسّرة وتؤكّد أنّ الظروف الآن لم تتغيّر بل وأشدّ قسوةً وإيلاماً..
الحاضِر.. تسرِيب وكبتاغون في المدراس!
في الزمنّ الحاليّ أصبح الوضعُ أكثرَ تعقيداً على مستوى التعليم بسوريا بِمُختلف مناطِق نفوذ الأطراف المُتصارَعة، بالأخصّ من حيث ضعف الإمكانيّات لرواتِب المعلّمين وتسرّب الأطفال من المدراس وتدمِير العديد من المدراس والمنشآت التعليميّة..
وبحسَب تقديرات "منظمّة اليونيسف" لعام 2021 يوجدَ أكثَر من مليونين ونصف مليون طفل في سوريا محرومِين من التعلِيم بسببِ الحرب وما تبِعها من نزوح كبير للسُكّان، وأجبرَ الوضع المعيشيّ المتردّي في البلاد الكثير من الأطفال على ترك الدراسَة والالتحَاق بالعمل للمُساعدَة في تغطية نفقَات أُسرِهم.
ويتشابَه وَضع التعليم في المدارس الحكوميّة في مناطق سيطرة النظام السوريّ مع الشمال السوريّ سواء تلكَ الّتي تحتَ سُلطة المُعارضة أو بمناطق سيطرة "قسد"، ويقول الطالِب مُعين" 11 سنة، نازِح من ريف دمشق يعيش في إدلب" أنّه تركَ المدرسَة بعُمر الثامنَة ويعمَل بورشة تصليِح السيّارات لعدم قُدرة أهلِه على التكفّل بمصاريف الدراسة ولأجل غلاء المعيشة، مضيفاً أنّه كانَ يحبّ أن يتعلّم ويُصبح محامياً كوالدهِ المُعتقَل والمخفي في سجون النظام منذُ 2014 حتّى الآن.. لكِنهُ فضّل العمَل وأخوتِه لمساعدَة أمّه المريضَة..
من ناحيةِ ثانيَة، تكثُر ظاهرة تعاطِى المُخدّرات بين الأطفال في المدراس السوريّة، خصوصاً حبوب "الكبتاغون" المنُتشرة بكثرَة.. ويقول سمير " 60 سنة، اسم مُستعار، موظّف حكوميّ في مدينَة حلب" أنّه تلقّى شكَوى من إدارة مدرسة ابنهِ أنّ الأخير تمّ القبض عليِه من قبل مديرهِ وهو برفقة زملائِه يشترون المخدّرات من أحد الشبّان! فهرعَ إلى ابنه وانهالَ عليهِ بالضرب عندَ عودتهِ للمنزل، مضيفاً: " بعدَ أن لقنتَه درساً وضربتهُ حتّى اعترف بتعاطيه الكبتاغون وقالَ إنّ فُلاناً من باعهم المخدرّات، وعندَ ذهابي لمدير مدرستِه قلتُ لهُ عن اسمهِ وطرحتُ عليهِ الذهاب للمخفر وتقديم شكوى للشرطَة كي تقبضَ عليه.. لكِن المفاجأة كانت أنّ الأخير أخبرني بأن أنسَى ذلكَ! وعرفتُ منهُ بأنّه مدعوم من إحدى المليشيات التابعة لإيران.. فصراحةً شعرتُ بالخوف وقرّرت نقله إلى مدرسة خاصّة.. وهذهِ الحالة مُنتشرة بين العديد من أطفال سوريا بمُختلف المحافظات السوريّة وذلك أمر يعرفهُ الجميع.. لكن من يتجرّأ على الوقوف بوجهِ أولئِك المروّجين التابعين لجهات أمنيّة مرتبطة بإيران! أكيد لا أحد.. وليس لي ولأمثالي من الأهالِي سوى الدُعاء عليهم بأن تذهَب أموال مخدّراتهم على صحّـهم وأولادهم.. الله لا يوَفقُون".. يختُم سمير كلامُه.
يبقى التعلِيم في المدارس السوريّة في الماضِي والحاضِر مرتبطاً بنفوذ "الحاكِم" بأمرِ أجيال سوريَا المقبلة، وذلكَ عبرَ مُختلف المناطق على تبايُن إنتماءاتها.. والحقيقَة أنّ مُستقبل الطالِب السوريّ يبدو قاتماً كما كان الماضِي والخَوف من تحوِيل براءة الطفولَة إلى "قنابِل عُنف موقوتَة" بسبب ضُعف المناهج، تسرّب الطلّاب، غلاء المعيشّة، والعديد من الأسباب الّتي لا حصرَ لهَا.