كانت إيران وفي مراحل عدة من التاريخ، إمبراطورية فارسية مهيمنة أو مؤثرة، وهذا أمر لم يغب يوماً عن بال قادة إيران السابقين والملالي الحاليين، ثم تراجع دورها بحيث أنه في بدايات القرن العشرين كانت تُعتبر غير مهمة لطبيعتها الجغرافية ومواردها المتواضعة، ولكنها استعادت أهميتها بعد اكتشاف النفط والغاز وهي اليوم ثاني إحتياطي لكل واحد منهما في العالم.
خلال الحرب الباردة كانت إيران وتركيا وإسرائيل المدعومة من الولايات المتحدة تشكل ثقلاً استراتيجياً في مواجهة سوريا والعراق المدعومين من الاتحاد السوفياتي، كما كانت طهران "شرطي الخليج" الضامن لاستقرار الطرق البحرية والمضائق التي تمر عبرها ناقلات النفط من الشرق الأوسط إلى العالم الغربي.
تغيرت هذه المعادلة عندما سيطرت الثورة الإسلامية الخمينية على إيران، معلنة عداءها للغرب ولإسرائيل، وأقلقت العراق والدول العربية الخليجية، وراحت تدعم المعارضين في هذه الدول، لا سيما التيارات الشيعية ثم هاجم "عراق صدام حسين" إيران ودامت الحرب الإيرانية – العراقية سنوات طويلة وأيقظت هواجس طهران من مخاوف السيطرة عليها ومن الإنقسامات التي يمكن أن تتعرض لها، فراحت تدعم بقوة حلفائها في العالم العربي من ميليشيات شيعة وكردية وحتى سنية أصولية ومنها تنظيم القاعدة، ونظام البعث في سوريا ومسيحيي التيار الوطني الحر العوني، لكي يكونوا لها دروعاً في مواجهة أعدائها المحتملين من عرب وخاصة العشائر العراقية، وغربيين وإسرائيل وتركيا، وإشغال وإلهاء أخصامها العرب عن مواجهة إيران.
وبعدما اطمأنت طهران على أمنها الخارجي، إستفاقت طموحاتها الإمبراطورية النائمة، وراحت تبني قوة عسكرية ذاتية وزودتها بوسائل غير متوازية Asymetric instruments من صواريخ ومسيرات ومراكب وغواصات حربية صغيرة وسريعة، وكلها وسائل رادعة للجيوش الكبيرة، ودعمت بها الميليشيات المتحالفة معها، لا سيما حزب الله في لبنان وجيش المهدي في العراق والحوثيين في اليمن وبعض الأحزاب الكردية في العراق ... مما خفف عليها كلفة التدخل المباشر وإرسال قوى عسكرية إيرانية إلى الخارج، بحيث أن هذه الميليشيات اتخذت لها أجندات سياسية خاصة بها كل في منطقة سيطرتها، وأجندات خرى لمصلحة إيران ولحماية إيران.
أخيراً تعمل طهران جاهدة في تطوير برنامجها النووي بما في ذلك تصنيع أسلحة نووية تشكل مظلة لكل ما بنته من تحالفات في المنطقة، ولا يبدو أن أحداً قادر على ردعها عن المضي قدماً في هذا المشروع.
من جهة أخرى، شكلت التدخلات العسكرية الأميركية منذ العام 2000 في أفغانستان والعراق فرصة استغلتها طهران لتوسيع سيطرتها الإقليمية، وراحت تبني "الهلال الشيعي" الممتد من طهران لبيروت مروراً ببغداد ودمشق، وهو اليوم أقوى من أي يوم مضى، ويتمحور حول فيلق القدس التابع للحرس الثوري الإيراني القوة غير النظامية التي تشكل العمود الفقري لما هو معروف بمحور المقاومة، كذلك برزت قدرات إيران على تهديد الملاحة البحرية مباشرة في مضيق هرمز وبواسطة الحوثيين في باب المندب وبحر العرب وخليج عدن والبحر الأحمر، ومن خلال كل ذلك برزت مهارة الإيرانيين في فن اللعب بالنار من دون أن يحترقوا، ودائماً يحاولون لعب دور الداعم لحلفائهم مدعين بعدم التدخل بقراراتهم، ومتسترين خلفهم، ونافين أي تورط في حروبهم مع إسرائيل والولايات المتحدة الأميركية.
تواجه طموحات طهران الإقليمية معارضة من قبل واشنطن والرياض وأنقرة وتل أبيب، واليوم يخيّم شبح الحرب على الشرق الأوسط بالكامل من جراء تداعيات حرب غزة التي لا يبدو أنها ستتوقف قريباً. لم تحدث مواجهات عسكرية مباشرة واسعة حتى الآن بين الولايات المتحدة وإيران رغم استهداف القوات الأميركية عشرات المرات في العراق وسوريا من قبل حلفاء إيران، ولكن بدأت الولايات المتحدة مرغمة، التورط في القتال في هاتين الدولتين وفي البحر الأحمر، مما يمكن أن يؤدي إلى تحويل الصراع الحالي المنخفض الوتيرة إلى حرب حقيقية في حال خرجت الأمور عن السيطرة.
إن المبادرات الدبلوماسية الغربية تجاه إيران المتزامنة مع الضربات الأميركية والبريطانية وحرب غزة، تهدف إلى تقويض طموحات طهران، وتشبه سياسة العصا والجزرة، ولكنها لم ولن تثن الإيرانيين عن طموحاتهم في جعل توازن القوى الإقليمي لصالحهم، أو تجعلهم يقلعون عن تطوير برنامجهم النووي المدني والعسكري، وهذا البرنامج من شأنه برأيهم أن يمكـّـنهم من تحقيق التكافؤ الاستراتيجي مع إسرائيل، أضف أن الحرب الانتقامية الإسرائيلية ضد حماس، التي تخطف حياة عشرات آلاف المدنيين الفلسطينيين، تقدم فرصة ذهبية لطهران لتعزيز مصالحها.
في المقابل، من غير الواقعي الظن أن تتراجع واشنطن أو تتنازل عن دورها في المنطقة كما يطمح ويعلن جهاراً الإيرانيون. في الواقع، يبدو أن الأمريكيين يعتمدون على إجراءات هجومية مصممة دقيقة وهادفة لردع الإيرانيين، وهذا ما يزيد من الفوضى السائدة في المنطقة في غياب استراتيجية واضحة أميركية، وهذا أمر فيه مخاطر كبيرة على حلفاء واشنطن الإقليميين. إن الولايات المتحدة متفوقة عسكرياً وستبقى كذلك لعقود طويلة دون منازع، ولكن ذلك لا يكفي "للنصر" ولا يكفي لإبقاء التوازنات بين حلفائها من جهة، وإيران وحلفائها من جهة أخرى. إننا اليوم في الشرق الأوسط نشهد سخونة لحرب باردة جديدة تدور رحاها ليس فقط في المنطقة إنما أيضاً في أوروبا وفي بحر الصين الجنوبي، في ظل تحالفات بين طهران وموسكو وبكين، ونتائج هذه الحرب الباردة التي تسحن لا تزال غير واضحة، دون أن تلوح في الأفق أية تسويات، في ظل التهديدات النووية التي يعلو صداها من موسكو، واستخدام الوسائل غير العسكرية من عقوبات وحظر تجاري وحصارات على إيران والصين وروسيا. النتائج ستكون كارثية ولن تنحصر فقط في المنطقة بل على العالم أجمع ما لم يتم التوصل إلى صفقات دبلوماسية صلبة، والعالم اليوم يشبه ما كان عليه إلى حد بعيد في بدايات القرن العشرين. قرن كامل وعودة إلى بدء: أو نظام عالمي جديد أو فوضى عارمة وحروب إقليمية متعددة "عولمية" والوقت ينفذ.