ما يحدث في أوروبا من صراع جديد هو محاولة لتغيير المفاهيم الحديثة من خلال إعادة ترتيب الخريطة الدولية وفقًا لمفاهيم الصراع الجيوسياسي الذي يتضمن إعادة توزيع النفوذ والهيمنة الدولية على دول ومستعمرات وثروات جديدة فالذي يحدث بين روسيا و" العالم الحرّ"،نزاعٌ مسلّحٌ دموي في خلفيته تقع المواجهة على الاراضي الأوكرانية التي باتت تدفع ثمنا غاليًا لهذا الصراع بين طرفي الصراع من خلال المواجهات التي تستخدم فيها أفظع أنواع السلاح الذي يؤدي الى التدمير والقتل الجماعي على مدى عامين من القتل الدموي بواسطة المتاريس الأوكرانية التي بات عمادها الإنسان والحجر .
الامبرياليات تتوزع بين غرب أوروبا وشرقها وبعيدا منها، وفي مقدمتها،تقف الولايات المتحدة الأميركية وروسيا الاتحادية من حيث المضمون هو صراع استعماري جديد،هدفه الهيمنة والتوسع والسيطرة، وإعادة توزيع مناطق النفوذ على مستوى عالمي بظل غياب القطبيات المتعددة حيث تسعى روسيا الى لعب دور على المستوى العالمي بعدما حاولت من خلال الحرب الطاحنة إعادة تعويم دورها القيادي على حساب الآخرين وفي محاولة جديدة من روسيا الى تجاوز الآخرين والسير على أشلائهم في الحفاظ على دورها وفرض هيمنتها.
من هنا، نرى تبرير روسيا في حربها ضد أوكرانيا التي تحاول الغوص في داخل التاريخ لإثبات دورها القيادي أيام القياصرة وتصحيح الخطأ الذي تم ارتكابه أيام لينين وستالين اللذين اعترفا بوجود الدولة الأوكرانية الاشتراكية التي لم تكن موجودة وروسيا منحتها هذا اللقب .
من هنا نرى أهمية السيطرة على أوكرانيا نظرا لأهمية موقعها التاريخي بحسب المقولة الروسية الشهيرة: "من يسيطر على اوكرانيا فهو يسيطر على أوروبا" لذلك تعمل روسيا بكل قدراتها للسيطرة على أوكرانيا وفرض قوتها في قلب القارة الأوروبية ومنع أوروبا من أن تمارس أي دور ريادي قادم في اطار التعددية القطبية وعليه تحاول روسيا تهديد أوروبا دائما بالاجتياح والاحتلال من أجل تقديم نفسها للتحدث مع الولايات المتحدة .
ومن جهة أخرى، تمارس روسيا عملية إبادة ممنهجة ضد أوكرانيا لضرب كل التاريخ والثقافة واللغة والحضارة من أجل تخويف الآخرين للانصياع لعربدة الامبراطورية الجديدة التي تضع شعارًا واضحًا أمامها "إعادة أمجاد الامبراطورية القيصرية القديمة على أشلاء الآخرين ".
المواقف المبهمة لبعض المتسائلين
يطرح القوميون والصحافيون وغير المتابعين لحركة التاريخ الجديد التساؤلات العديدة التي تتعاطف مع روسيا الصديق القديم للمنطقة وتحميل المسؤولية المباشرة للولايات المتحدة العدو الدائم للمنطقة من خلال العديد من التساؤلات وكأن روسيا البوتينية وصقور الكرملين لايزالون ضمن النظرية الماركسية ومع قوى الشعب العامل البروليتاريا "لماذا فشلت "أميركا" في قبول روسيا بعد انهيار السوفيات؟ وهل بذلت جهدًا في هذا المجال؟"
في الإجابة الصحيحة التي يجهلها كثيرون الانهيار كان طبيعياً لأن الشعب السوفياتي لم يدافع عن الدولة السوفياتية بسبب البيروقراطية ونظام المخابرات والفشل في الحياة الاجتماعية والسياسية لذلك كان 63 مليون عضو في الحزب الشيوعي أول من رموا بطاقاتهم الحزبية وأيدوا التقوقع في دولهم ومشوا وراء قيادتهم الجديدة التي تقاسمت القيادة في دول السوفيات طوعيًا وحبيًا وصولا للسلطة والمال.
أميركا والغرب احتضنوا روسيا التي تشظت وانبثق عنها دولة المافيات والعصابات والتي انتشرت شظاياها في بقاع العالم. أميركا قدمت الدعم المالي والغذائي والسياسي واعترفت بروسيا وريثاً شرعياً لدول الاتحاد السوفياتي وتآمرت معها على الدول الأخرى التي تُركت وحيدة تواجه مصيرها .
أميركا فتحت جسراً جوياً لتمد روسيا بالإمدادات الغذائية التي افتقدتها الأسواق الروسية من العام 1990 حتى 1998 وهذا الجسر الجوي كان في الحرب العالمية حيث حولت أميركا المجهود الحربي والترسانة العسكرية والمالية للاتحاد السوفياتي وبقي الدين قائماً حتى العام 1990 بعد انهيار الاتحاد السوفياتي.
أميركا فتحت كل المؤسسات الدولية أمام روسيا من الدول السبع التي أصبحت ثمانية الى عام 2014 حيث تم إخراج روسيا منها بعد غزوة القرم والسؤال الذي يطرح نفسه على من عاش تلك الحقبة من لا يعرف أفخاخ بوش التي كانت ترسل كمساعدات للشعب السوفياتي من أميركا حيث باتت الأسواق مليئة ببضائع أميركية وأوروبية من خلال الدعم المباشر للسكان السوفيات والتي باتت المجاعة تهددهم بسبب تعطيل المصانع والمزارع في مرحلة الانتقال الى السوق الحرة؟
الأبواب شرعت أمام روسيا لكنها أقفلتها
روسيا أُدخلت الى المحافل الدولية ومنظمة اليونسكو واليونسيف ومعاهدة المعادلات التربوية حيث تم الاعتراف بالدبلوم الروسي وفقاً للاتفاقيات الاوروبية والدولية والعالم فتح أبوابه أمام السياحة والعمالة ورأس المال الروسي فكان الدور الأكبر للولايات المتحدة في هذا الدعم الدولي لاحتضان روسيا وحتى أكثر من ذلك كان الاعتراف بالتغيير الداخلي الروسي هو نتيجة مساعدات غربية وأميركية لكن روسيا في العام 1999 بدأت تتكلم بطريقة مختلفة مع العالم الحر من خلال تطوير السلاح ومحاولة فرض الأمجاد الجديدة بعد تعافيها الاقتصادي وكأنها تذكرت أن تعيد أمجادها على حساب الاحتضان الدولي .
روسيا والانتقام لسقوط جدار الريخ السوفياتي
روسيا نسيت أن انهيار الاتحاد السوفياتي هو فشل واضح وهزيمة في السياسة والأخلاق والثقافة والدبلوماسية والاقتصاد لكن روسيا من جديد بدأت تحاول التضييق على الجمهوريات السابقة بعد أن خرجوا منها في إطار اتفاق واضح تم التوقيع عليه في العام 1991 وتم تصديقها في الأمم المتحدة حيث يعرف باتفاق الحدود الجديدة بين دول الاتحاد السوفياتي لكن روسيا بدأت تتملص من هذه الوثيقة القانونية تدريجيا بخلق دويلات في داخل الدول بسبب ضعضعة نفوذ الدول من السيطرة عبر الدويلات على القرار السياسي ومنع دخول هذه الجمهوريات الى أحلاف أخرى بالرغم من حالة الذعر والخوف التي باتت تشكلها روسيا مما دفع سكان هذه الجمهوريات التوسل للحلف(الأطلسي) للمساعدة الاقتصادية بظل التضييق الروسي عل شعوبها وعندما استجاب الغرب من خلال فتح باب العضوية والطرق الاقتصادية بدأت روسيا تهدد بالاحتلال العسكري مما دفع بهذه الدول للذهاب نحو طلب الحماية من قبل الناتو التي ترى روسيا أنه الخطر الحقيقي عليها .
أما روسيا فلا تزال تضع هدفاً واحدًا أمام أعينها وهو التخريب من الداخل والخارج مثلاً روسيا طلبت الانضمام الى حلف الناتو في العام 1993 في عهد إدارة الرئيس بيل كلنتون لكن الإدارة لم تستجيب لطلب روسيا وصقورها حيث واجه الرئيس الأميركي بالضحك ولم يفهم أحد سبب رفض الإدارة لطلب روسيا الخبيث بل وحدهم الأميركيين عرفوا جيدًا أهداف روسيا من وراء الطلب فالجميع بات على معرفة جيدة بالرفض من جراء دخول روسيا بالحرب ضد أوكرانيا حيث كانت تعتمد على تمزيق الاتحاد الأوروبي من الداخل وتجويف قدراته كونها تريد الانتقام من أجل سقوط الاتحاد السوفياتي التي تحمل الغرب مسؤولية الانهيار وتعفي نفسها وحزبها المترهل من المسؤولية .
الاحتضان الغربي الخطأ لروسيا
لكن من أخطاء الغرب السابقة بأنه تغاضى عن كل أعمال روسيا العدوانية في الجمهوريات والتي أدت الى نشوب حروب داخلية وكانت روسيا العامل المساعد في ذلك مثل (مولدوفا الصراع في كاراباخ ابخازيا اسيتا اجاريا الشيشان طجكستان اوزبكستان تراكمنستان واخيرا جورجيا كازاخستان وأوكرانيا) .
فعندما وضعت الخريطة الجديدة للدول السوفياتية في العام 1990 كانت روسيا مستعجلة السيطرة والاستفادة بثروات الاتحاد السوفياتي السابقة من دون النظر الى التاريخ ولم تطالب بأراض يحاول النظام الجديد التذكير بأنها أراضيه القديمة كما حال الوضع مع أوكرانيا وقصص الحكواتي بوتين.
عندما طلب الغرب من دول الاتحاد السوفياتي تسليم سلاحه الاستراتيجي والنووي لروسيا من أجل السيطرة عليها وعدم تسريبها لمنظمات دول أخرى بمساعدة أميركية كانت روسيا ضامنة لهذه الاتفاقية التي حصلت في العام 1994 عندما سلمت أوكرانيا وأرمينيا وبيلاروسيا وكازاخستان سلاحهم النووي وتم تفكيك ترسانتهم الإستراتيجية.
كانت أوكرانيا من ضمن هذا الاتفاق وروسيا وبريطانيا وأميركا هم الضامنون للأمن والحماية وهم الذين دفعوا الأموال وفقاً للإتفاقية الموقعة والموجودة في الأمم المتحدة لم تكن روسيا تطالب بأراضيها فقط في العام 2014 تذكرت روسيا أراضيها التاريخية ونسيت بأنها احتلت في العام 1945 أراض من ألمانيا على بحر البلطيق ومن فنلندا ومن اليابان في جزيرة الكوليرا في البحر ولا يزال الخلاف بينهما مفتوحاً ولم توقع اتفاقية سلام .
إذاً روسيا تعمل على إعادة النفوذ من خلال التاريخ وليس الحاضر والمستقبل بواسطة البلطجة والحديد والنار.
النزاع الاستعماري وبعض التساؤلات
ويستمر الصراع اليوم بعد أن استهلك توزيع ما بعد الحرب العالمية الثانية،وبعد انهيار التجربة السوفياتية،وبعد فشل "أميركا" في لعب دور القيادة العالمية، وبعد تقهقر المبادئ الديمقراطية،وشعارات الثورة الفرنسية والإطاحة بالأساس "الأخلاقي والفلسفي" الذي ادّعته الرأسمالية الأوروبية الناشئة لنفسها.
وهذا لا يعني الموافقة على ما تفعله أميركا والتي يجب مراجعة أعمالها وغزواتها المباشرة في العراق وفي أفغانستان وغزواتها بالواسطة لسوريا واليمن والصومال وفلسطين.
ولماذا تنصب أشباهها في أوروبا الخصومة الاقتصادية والثقافية والسياسية؟ فتأمن لمن نطق بلغتها، بريطانياً، ولمن يشاركها بعدها البروتستانتي في الوقت ذاته... وفي الموضوع شرح يطول.
لكن لابد من القول إن روسيا الساعية إلى هيمنة وتوسّع على قياسها، لماذا أخفقت في استمالة أوكرانيا، التي عاشت معها تحت سقف نظام واحد طيلة ما يزيد على سبعة عقود؟ وما سياساتها حيال دول أخرى شاركتها الاتحاد، ثم اتجهت أطلسياً؟ ثم ما الذي يميّز عدوانيتها في سوريا عن العدوانية الأميركية؟ وهل كانت لتمارس لعبة نفوذها، لولا الرضى الأميركي، والسماح لها بأدوار قمعية مكشوفة، نأت السياسة الأميركية بنفسها عنها، فتركت لروسيا دور الوكيل،لينفذ ما يشبع نهمه، وما لا يضرّ بحصة الأصيل.
ويمكن الاجابة على أن الغرب لم يدفع بوتين للخرق في مستنقعات أوروبا لأن بوتين لديه مؤسسات ومستشارين كبر في السياسة والأمن لكن الطموح الروسي والفوقية الروسية هي من أدخلت روسيا في عنق الزجاجة بسبب عدم ايجاد الحسابات الجيدة التي تصب في مصلحة أميركا في الحقيقة موظفو بوتين استجابوا لرغباته الشخصية وليس للقراءة الجيوسياسة وللمتغييرات .
وفي ظل الصراع الجيوسياسي والتوحش النيوليبرالي بين الدول الاستعمارية فقدت الثقة والمصداقية الروسية مع الطرف الآخر مما جعل الغرب يعمل على استنزافها واستهلاكها
.
يطال تساؤل السلطة الأوكرانية، ونقاش حكمتها السياسية،أو إدارة علاقاتها مع روسيا، وتناقش دول أوروبا الغربية الأساسية،على ذات المنوال...ليصل الأمر إلينا نحن العرب، ونحن اللبنانيين،ليكون سؤالنا الذاتي،على أي أساس نبادر بالانحياز إلى طرف من أطراف الصراع الاستعماري الدائر؟ بمقياس مصلحة قومية عامة؟ أو بمقياس مصلحة وطنية خاصة؟ أو بمقياس حق تقرير مصير فلسطيني ابتعد أفقه؟ أم بمقياس تصفيق أبله قبل أن تهرسنا دبابات الصديق المستعمر، الشرقي أو الغربي؟...